التعليم مطلب النابهين ومستقبل الواعين وهو الخيار الأمثل والمجال الأرحب والميدان المفتوح لكل البشر، فالعلم حق مشاع كالماء والهواء ولكن التفاوت في الجد وإعمال الفكر.
وقد سطر علماؤنا الأوائل قصصاً خالدة وصوراً مؤثرة في الصبر على طلب العلم والجد في تحصيله، فكونوا أسفاراً من المجد خالدة وآثاراً من العلم مشرقة وسوف أتناول بعضاً من تلك المواقف التي تحكي صبر هذا العالم وجدِّ ذاك الفقيه.
قصة
ومن تلك الصور ما قصه التاريخ عن العالم العربي الشهير الطبيب ابن سيناء، فلقد وُلِدَ هذا العالم سنة ثلاثمائة وسبعين هجرية (370هـ) ولما بلغ عشر سنين من عمره كان أتقن القرآن العزيز ودرس الأدب وحفظ أشياء من أصول الدين والحساب والجبر وفاق أساتذته وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى معلمه إسماعيل الزاهد واشتغل بتحصيل العلوم وفتح الله عليه أبواب العلم ثم رَغِبَ بعد ذلك في علم الطب وتعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة ،واختلف إليه فضلاء ذلك الفن وكبراؤه يقرؤون عليه، وسنّه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة.
وفي مدة اشتغاله بالعلم لم ينم ليلة واحدة بكاملها ولا اشتغل في النهار بسوي المطالعة وكان إذا أشكلت عليه مسألة توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله عزّ وجلّ أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وألف ما يقارب مائة كتاب وظلت كتبه في الطب تدرس في الجامعات الأوروبية أوائل هذا القرن.
موقف
وعالم آخر من الذين صابروا على طلب العلم وكانوا قدوة لكل طالب إنه الحافظ بن محمد بن طاهر المقدسي المتوفى سنة (507) من الهجرة يقول هذا العالم: كتبت صحيح البخاري وصحيح مسلم وأبي داود سبع مرات بالورقة أي بالأجرة وكتبت سنن ابن ماجه عشر مرات بالورقة ويقول بلت بالدم في طلب الحديث مرتين: مرة ببغداد ومرة بمكة وذلك أني كنت أمشي حافياً في حر الهواجر بهما فلحقني ذلك! وما ركبت دابة قط في طلب حديث إلا مرة وكنت أحمل كتبي على ظهري إلى أن استوطنت البلاد وما سألت في حال طلب العلم أحداً وكنت أعيش على ما يأتيني من غير سؤال.
وصارت له قصة طريفة يقول عنها: أقمت بتنيسِّ فضاق بي الحال ولم يبق معي غير درهم وكنت في ذلك اليوم أحتاج إلى خبز وورق للكتابة فكنت أتردد إن صرفته بالخبز لم يكن لي ورق للكتابة وإن صرفته للورق لم يكن لي خبز ومضى هذا الحال ثلاثة أيام ولياليهن لم أطعم فيها شيئاً فلما كان بكرة اليوم الرابع قلت في نفسي: لو كان لي ورق لم يمكنّي أن أكتب فيه شيئاً لما بي من الجوع فجعلت الدرهم في فمي فخرجت لأشتري الخبز فبلعت الدرهم فطفقت أضحك.
ولقيني أبو طاهر ابن خطاب الصائغ بتنيسِّ على حالتي تلك وأنا أضحك فقال ما أضحكك! قلت خيرا. فألح علي وأبيت أن أخبره فحلف بالطلاق لتصدقني لِمَ تضحك؟ فعند ذاك أخبرته فأخذ بيدي وأدخلني منزله وقدَّم لي في ذلك اليوم ما أطعمه فلما كان وقت الظهر خرجت أنا وهو إلى الصلاة فاجتمع به بعض وكلاء عامل كان بتنيسِّ يعرف بابن قادوس فسأله عني فقال هو هذا فقال إن صاحبي - أي أمير تنيسِّ- أمرني أن أوصل إليه كل يوم عشرة دراهم قيمتها ربع دينار وسهوت عنه.
فأخذ منه ثلاثمائة درهم وجاءني وقال: قد سهل الله رزقاً لم يكن في الحساب.
وهكذا تضيق الحال ويفرجها رب العباد، ومضى أولئك العلماء الذين كان مجدهم كما قال الزمخشري في كراريسهم وبقي المجد وحفظه التاريخ، ولعمر الله إنه المجد الخالد، والفخر الدائم!
عضو مجلس الشورى |