* مكة المكرمة - واس :
أوصى امام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس المسلمين بتقوى الله عز وجل.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة امس: نسائم الطاعات وعبق العبادات وشذى القربات تترك أثرا زاكيا في حياة المسلمين والمسلمات. ولعل من اهم ما يتركه شهر الصيام المبارك من نفحات وتجليات ومناسبات العيد السعيد من اشراقات وجماليات في حياة الامة هو ذلك الاثر الايجابي المتمثل في شيوع مظاهر المودة والاخاء والمحبة والصفاء والتواصل والهناء في تجاف عن مسالك النفرة والجفاء بين ابناء المجتمع لان قمة التعامل الانساني وسمو العلاقات الاجتماعية ركيزة من ركائز بناء المجتمع الاسلامي المتميز بالقوة والتماسك لاسيما امام نزعة الماديات وفي عصر الازمات والمتغيرات.
واضاف يقول ان المتأمل في حلائب العلاقات الاجتماعية وميادين التعامل بين الناس يهوله ما يرى من تفشي مظاهر التقاطع والتدابر والنفرة والتعاجر وانتشار لوثات التعالي والجفاء والتباغض والشحناء في هوى مطاع واعجاب كل ذي رأي برأيه ورفع لراية الشائعات المغرضة والاخبار المكذوبة الملفقة وتلمس العيوب للناس وتضخيم الهنات للعلماء وتتبع المسالب للصلحاء وانتقاص مقامات الفضلاء النبلاء حتى ان الغيور لينتابه شعور بالاحباط وهو يرى هذه المظاهر السوداوية القاتمة تنتشر في دنيا الناس انتشار النار في الهشيم فلا يستطيع لها تفسيرا ولا يجد لها مصاغا او تبريرا يكون شمعة يحرق نفسه ليضيء للآخرين ومع ذلك يجد أن هناك لصوصا يتمسحون بالاجواخ ويتسلقون على الاكتاف للوصول إلى مآربهم الشخصية ومصالحهم الذاتية ومطامعهم المادية دون وازع من دين أو خلق أو ضمير مردوا على الاحابيل والدنايا ودأبوا على المكر وسوء النوايا لا يتلذذون الا بالنيل من الطامحين والاساءة للناجحين والثلب في الصالحين والتقليل من شأن العاملين وتنفير الناس منهم والعمل على الاساءة اليهم والوقيعة بهم بتلفيق الطعون والاتهامات ونشر الاراجيف والشائعات في حروب اجتماعية طاحنة وضغوط نفسية قاتلة.
وأردف يقول ان من نكد الدنيا على المرء أن يرى أمثال هؤلاء النشاز في اسرته ومجتمعه وأهله وأقاربه وجيرانه وزملاء عمله مطيتهم سوء الظن وقاموسهم الاذى والمن، بل يصل الامر إلى ذروة خطورته حينما تستغل الابواق الناعقة في بعض وسائل الاعلام وقنوات الفضاء وشبكات المعلومات لنشر الاكاذيب المغرضة والدعايات المضللة لتستبغ مع كثرة اللسن والاطروحات وتكرار العرض في المجالس والمنتديات على أنها حقائق ثابتة لا تقبل الجدل ولا المساومة وما هي الا شائعات مغرضة.
وقال امام وخطيب المسجد الحرام: ومن عجيب الامر مسارعة كثير من الدهماء إلى تصديق هؤلاء، بل انك تستغرب حال كثير ممن يروجون فتنة القول ولا ينتهي عجبك وأنت ترى أن بعضهم قد يشار اليه بعلم أو فضل أو صلاح أو مكانة وكأنها لم تطرق أسماعهم آية الحجرات المدوية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وفي قراءة حمزة والكسائي (فتثبتوا) وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)). ورحم الله شيخ الاسلام ابن تيمية حيث يقول ((حتى ان الرجل ليشار اليه بالزهد والدين والعبادة ولسانه يفري في لحوم الاحياء والاموات وهو لا يبالي ما يقول)). بل ان منهم من لا يتورع عن التدخل في خصوصيات الآخرين في أموالهم وأولادهم ومواقفهم والاستماتة في استمالتهم إلى ما يريدون من حيث لا يريدون والا فسيوضعون تحت مطرقة الشائعات وسندان الاتهامات وعلى مشرحة الطعون والافتراءات فيا هذا دع الخلق للخلاق تسلم وتغنم والله المستعان.
وبين الشيخ السديس أنه في اتون هذه المظاهر القاتمة ينبغي أن تعلي رايات المنهج الاخلاقي المتميز الذي ينضح بنبل الشمائل والخلال وعريق السجايا والخصال انصافا لا اعتساف ائتلاف لا اختلاف تناصح لا تفاضح تسامح لا تناطح صفاء لا جفاء تناصر لا تنافر تحاور لا تناحر اتفاق لا افتراق اعتصام لا خصام اجتماع لا نزاع.
وافاد انه لتحقيق تلك الشمائل المثلى والسجايا العليا يجب أن يتربى الناس لا سيما الاجيال على قرن العلم بالادب، فالعلم مالم تكتنفه شمائل تعليه صار مطية الاخفاق، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ((كان الناس يتعلمون الادب قبل العلم أما اليوم فقد جحد الناس الادب)) ويقول بعض السلف ((نحن إلى قليل من الادب أحوج منا إلى كثير من العلم)). كما يجب ان يتربى الناس على حسن الظن بالمسلمين لا سيما خاصتهم من أهل العلم وحملة الشريعة لان الطعن فيهم أمر خطير جلل وصاحبه معرض للزلل حيث لا يراعي الا موضع العلل ولما فيه من ذهاب هيبة العلماء والازدراء بعظيم حرمتهم وجليل قدرهم وعلو مكانتهم وتجرؤ السفهاء على مقاماتهم وفتح الباب للمغرضين والمتربصين بالعلم وأهله لذلك ربى الاسلام اتباعه على حسن الظن والتحذير من الظنون السيئة بالمسلمين، يقول الحق تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وفي الصحيح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((اياكم والظن فان الظن أكذب الحديث))، وعند البيهقي وغيره أن الله حرم دم المسلم وعرضه وأن يظن به ظن السوء، ويقول الشافعي -رحمه الله- ((من أراد أن يقضي الله له بخير فليحسن ظنه بالناس)).
وقال فضيلته: اذاً فالاصل حسن الظن بالمسلمين وحمل اقوالهم وافعالهم وتصرفاتهم على أحسن المحامل. بل ينبغي التماس العذر لهم وان أخطأوا باجتهاد أو تأويل سائغ، يقول عمر رضي الله عنه ((لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً)). ويقول عبد الله بن المبارك - رحمه الله- (المؤمن يلتمس المعاذير والمنافق يتتبع الزلات) والاخطر من ذلك حينما ينصب المرء نفسه رقيبا على نيات الآخرين حاكما على قلوبهم ومقاصدهم دون اعذار او عواصم يلغ في اعراضهم ولغا ويفري فيها فريا، وانك لواجد من ذلك في حياة الناس عجبا. فسبحان الله عباد الله، ماذا يبقى للامة اذا طعن في علمائها وصلحائها، واذا نيل من فضلائها ونبلائها! وان من بالغ الخطورة ان تعقد المجالس والمنتديات يحضرها العشرات والمئات وينبري فيها دعي متحذلق فيطلق لسانه في أهل العلم والصلاح ذما والناس منصتون ساكتون خشعا أبصارهم يأخذون ذلك مأخذ القبول والرضا بل والفرح والتشفي بل ويسلموا تسليما. أهكذا ربى الاسلام أتباعه؟ أين الذب عن أعراض المسلمين والحفاظ على سمعة الفضلاء الصالحين؟ ان الذب عن اعراض المسلمين لا سيما علماؤهم وصلحاؤهم فريضة باتت مطوية غير مروية وسنة أصبحت مهجورة منسية. ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة))، وفي رواية ابن أبي شيبة ((وقاه الله لفح النار يوم القيامة))، فيا لله كم يزهد في هذا كثير من الناس ممن يتلذذون بالتفكه في الاعراض ويتشهون بل ويتشفون في ذلك فالله حسيبهم.
ومضى فضيلته يقول: فما جوبهت تلك النوازل والمستجدات وعولجت تلك التقلبات والمتغيرات بمثل الاجتماع والائتلاف وما تسلط الاعداء الا بسبب التنازع والاختلاف، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أنواع الفساد التي يسببها التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا ويعاديه ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله وحتى يفضي الامر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز وببعضهم إلى الاقتتال بالايدي والسلاح وببعضهم إلى المجاهدة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الامور التي حرمها الله ورسوله. وقال -رحمه الله- ((وبلاد المشرق من سبب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين للظن وما تهوى الانفس والمتبعين لاهوائهم بغير هدى من الله مستحقون للذم والعقاب فان الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين)).
واردف يقول ان ذلك يقال أيها المسلمون في الوقت الذي تكتوي فيه أمتنا بجراحات ونكبات تتباين من خلالها المواقف والتحليلات وينتج من ذلك خلافات بل وخصومات وامة الاسلام في هذا المنعطف الخطير أحوج ما تكون إلى اتحاد المواقف واجتماع الكلمة ووحدة الصفوف وتضييع الفرص على الطامعين والمتربصين. ان كل غيور يؤلمه ما آلت اليه الحال على ثرى فلسطين والاقصى وما تعيشه أرض العراق وبلاد الرافدين من مآسٍ وفواجع لم تسلم منها حتى بيوت الله وأماكن العبادة، فبأي حق يقتل الآلاف من الرجال بل النساء والاطفال وتحدث المجاز وتدمر المساكن وتداس الارض وينتهك العرض؟! ألا فسلام الله على فلوجة الصمود والعز والشموخ التي ستنفلج دونها بإذن الله ثم بصمود أبطالها فلول الاحتلال مهما تشدقت بالحرية ومراعاة حقوق الانسان، فصبرا صبرا اخواننا في العراق ولكم الله أحبتنا في بلاد الرافدين فهو سبحانه المؤمل لكشف كربتكم وتفريج غمتكم في زمن قل فيه الناصر والمعين وطال فيه ليل الغاشمين المحتلين ولن يفلت هؤلاء من سجل التاريخ ولن يفلج ذلك الا كراهية الشعوب وسخط علام الغيوب، غير أن ذلك كله ليس تأجيجا للعواطف ولا انسياقا وراء حماسة وعواطف وانما هي دعوة لاتحاد البيانات والمواقف والحذر أيها المحبون من فتنة القول والعمل واتهام النفوس والجامها ان تقول على الله بغير علم أو تخوض في النوال بالتوقيع عن رب العالمين ببيان أو فتوى لم ينظر في آثارها ومآلاتها ومصالحها وأولوياتها أو تقحم فريضة هي ذروة سنام الاسلام بلا راية ولا ايمان في مواقف عاطفية دون فقه لمقاصدها ورعاية لضوابطها وتحقق لشروطها وانتفاء لموانعها.
وبين فضيلته حاجة طلاب العلم في النوازل إلى أن يولوا حارها من تولى قارها وأن يحذروا من المنافذ التي يتسلل منها المتربصون وينفذ منها الانتهازيون النفعيون المغرضون مع احترام رأي المجتهدين وحسن الظن بهم والتماس العذر لهم والذب عن أعراضهم ردا للعجز إلى الصبر وبناء للنتائج على المقدمات غير أن مصالح المسلمين العامة واجتماع قلوبهم وتوحيد مرجعيتهم في النوازل وعدم الابتياس عليها هو الاولى بالرعاية والعناية والاهتمام وبه تتحقق أعلى المصلحتين وتدرأ أعظم المفسدتين سائلا الله بمنه وكرمه أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجمع كلمة المسلمين على الحق ويصلح أحوالهم انه خير مسئول وأكرم مامول.
وأفاد أن من الوسائل المهمه في الحفاظ على صفاء المجتمع واجتماع وتالف ذوية وانتظام عقد أبنائه أن تتربى النفوس على العدل في المواقف والانصاف من المخالف فالامة أحوج ما تكون إلى ابراز هذه الخلة القويمة حفظا لبيضة الديانة واقامة لاود الشريعة وذبا عن حرمات المسلمين خاصتهم وعامتهم وأخذا بحجج الاخوة والمحبين وسدا لباب الشانئين المغرضين.
واوضح أن الانصاف نفيس وعزيز حتى لايكاد نجمه أن يأفل في دنيا الناس فهذا الامام الذهبي رحمة الله يشكو قلة الانصاف في زمانه فيقول ((لقد صرنا في وقت لايكاد الشخص يقدر على النطق بالانصاف)) نسال الله السلامة.
وقال فضيلته ولم تزل قلة الانصاف قاطعة بين الرجال وان كانوا ذوي رحم واذا طوى بساط النصف وتطاول أهل السفه والصلف استوى المحسن والمسيء والمحق والمبطل والظالم و المظلوم والبشر مجبولون على الانسياق وراء رغبات نفوسهم والسعي إلى مصالحها ولو على حساب النصف من الاخرين يقول داود بن يزيد سمعت الشعبي رحمة الله يقول ((والله لو أصبت 99 مرة وأخطات مرة لعدوا على تلك الواحدة)) وطريق السلامة من ذلك هو التمسك بالكتاب والسنة وعفة اللسان وسلامة الصدور ولزوم الجماعة وفقه أدب الخلاف والدعاء أما من تعرضوا للنيل والشائعات واكتووا بنار الاكاذيب والافتراءات فليهنأوا بذلك ولا يضجروا وليعلموا ان ذلك طريق المرسلين و الانبياء وأن المسلم عرضة للامتحان والابتلاء مع أخذ النفوس بالصلاح والاصلاح والدفع بالتي هي أحسن ثم لابد من ترويض النفوس على الصبر والتحمل مع الثقة بالله وتغليب مشاعر التفاوءل فلا ترمي بالحجارة الشجرة المثمرة وما أحوج المحب إلى الثقة بالنفس والاعتدال في الرأي وتنسيق المواقف مع الحذر من اليأس والقنوط فلا يبقى في النهاية الا الحق ولا يصح الا الصحيح وكم من أمثال هذه النوابت والنتواءات واصلت اضرارها بالبراء فكانت نهايتها سقوطا مدويا وفشلا ذريعا ولنحذر من تعميم الاحكام واطلاقها جزافا على الانام فلا يزال الخير في هذه الامة إلى قيام الساعة واحذر رعاك الله أن تبادر بسوء ظن واحمل أخاك يارعاك الله على أحسن المحامل ومن ذب عن عرض أخيه ذب الله عن عرضه النار يوم القيامة وتلك رسالة الاسلام في المحبة والمودة والسلام والتسامح والصفاء والوئام وهي رسالة إلى العالم بأسره ليعي الوجه المشرق في هذا الدين وما يحمله للانسانية من خير وأمان وما يدعو اليه من أمن واطمئنان.
|