في الأزمنة الأولى من طلب العلم لا نعرف عن المشاهير أو المهمين في التاريخ إلا كل شيء عظيم.. نتعرَّف عليهم كفكرة لا بشر.. نتعامل معهم بصورة مثالية وكأنهم خلقوا نسيجاً وحدهم.. بعد أن يدخل المرء في التفاصيل ويقلع عن حياة الشباب المثالية سرعان ما تنكشف له الأمور، ويصبح من يراهم في يوم من الأيام نماذج تصلح لبلوغ الجنة في حال الاقتداء بهم يكتشف أن هؤلاء لا يقلون عنه سوءاً في جوانب كثيرة من حياتهم.. أعطيكم مثالاً: في أيام الطلب الأولى كانت علاقتي بعدد من المفكرين والأدباء العالميين والعرب علاقة طفل بأمه.. من بينهم الكاتب الفرنسي الشهير جان بول سارتر.. كانت صلتي به عبر كتبه المترجمة.. أعمال روائية، أعمال فلسفية، مقالات في الدراسات والأدب.. كنت معجباً بأسلوبه، ومعجباً أكثر بأفكاره التي كانت تتسيَّد في تلك الفترة واجهات الثقافة العالمية، حتى جاء ذلك اليوم الذي التقيت فيه بطبيب إنجليزي في لندن.. كان من المهتمين بالأدب الفرنسي.. لم أكن أتابع من الأدب الفرنسي إلا عدداً قليلاً من الأدباء الطليعيين وعلى رأسهم سارتر.. طبعاً ليس لدي ما أقوله عن سارتر سوى المديح والإطراء.. كنت أتوقع أن نغرِّد أنا والدكتور بفضائل وعظمة سارتر.. فسارتر حسب عقليتي في تلك الفترة لا يأتيه الباطل من أي جانب.. فجأة خيَّب الإنجليزي توقعاتي، وأخذ يتكلم عن سارتر، وكأنه يتكلم عن أديب من الأدباء.. قلَّبت الأمر.. حاولت أن أتأكد لعله يتحدث عن سارتر غير سارتري.. قاومت الميل للعنف للجم هذا المعتدي الآثم.. حاولت ضبط أعصابي على أساس يا غريب كن أديباً.. خرجت من عيادته أتميَّز من الغيظ.. ولا أتذكَّر أني خرجت بأي شيء معادٍ لسارتر.. لم أعد إليه بعد ذلك لإكمال العلاج.. اضطررت أن أستبدله بطبيب أفضل.. بعد سنوات اكتشفت أني كنت أريد أن أستبدله بطبيب أفضل منه.. أي بطبيب يمدح سارتر لا ينتقده.. بعد حادثة الطبيب الإنجليزي انفتحت أذني على سماع الكلام السلبي عن سارتر.. كأن الدكتور الإنجليزي عالج قدرتي على السمع والإصغاء.. أزال منها فلتراً يزيل الكلمات المعادية لسارتر ولغيره.. لم أشعر بالقلق على الأستاذ الكبير فكتبه تملأ مكتبتي، ولكني شعرت بالقلق على نفسي.. بدأت أشعر كأني حدث صغير بدأ يسمع كلاماً لا يسره عن والده.
حتى جاءت الضربة القوية.. قرأت مقابلة مع كاتب فرنسي شهير يُدعى (ألن روب جرييه) لا ينتقد سارتر، بل يتهمه بأنه دجّال ومنافق ومداهن وأنه لا يملك رؤية فكرية خاصة، بل يعمل على خلق انطباع عام بأنه يناضل من أجل الحرية حسب مصلحته.. حقيقة الأمر لم أصدم من كلام (ألن روب جرييه) فقد كنت حينها محصناً بالكلام القديم.. تذكّرت أن المثالية التي أنظر بها إلى سارتر تداعت منذ أن سمعت كلام الطبيب الإنجليزي.
جاءت بعدها ضربة طه حسين ومعلمه الكبير مارجليوث.. عرفنا طه حسين عندما كنا صغاراً في السن.. كان طه حسين في حينها يصوّر لنا في صورة البطل المناضل من أجل الحرية والأدب.. أكيد له مآثر كبيرة على الأدب والتعليم في بلاده.. قرأنا كتابه في الأدب الجاهلي.. كان مثالاً للفكر الخلاَّق المناسب لتطلعات الشباب.. بعد فترة من الانتظام في الدراسة الجامعية اكتشفت أن معظم أفكار طه حسين الوثَّابة الخلاَّقة منتحلة عن المستشرق مارجليوث.. عندما قرأت أفكار مارجليوث بإمعان اكتشفت أن المسألة لا تخلو من التأثر المباشر.. بعدها تعلمت شيئاً واحداً.. لا قدسية للأشخاص مهما كانوا.. إن أخطر ما يواجهه جيل اليوم من الشباب هو أن نماذجهم من الشخصيات المثالية تأتي في زمن الإحباط الكبير وفي حال التباس خطير مع المقدس الديني.
للموضوع بقية..
|