تدلف تلميذةٌ للمدرسة تحملُ حقيبتها خلفَ ظهرها، في توريةٍ لجعلِ العلم خلفنا! ونحنُ أمَّةٌ طالبنا القرآنُ بالعلم في أول آيةٍ أُنزِلتْ على نبينا!!
تقفُ التلميذة (لمياء) أمام البوابةِ في محاولةٍ لاستعادة الأنفاس، وما تلبثُ أن تضعَ الحقيبة على الأرض لتُحدِثَ ارتطاماً فيسيلُ منها ينبوع من... الماء! وكنتُ أخالُ ذلكَ علماً لولا أن العلمَ لدينا لا يسيلُ، بل يقطر! أو أنه بمعنى أدق (يندى) كما يندى جبينُ مَن اعتادَ المعصيةَ بتكرارها!! أجل! إنَّ ما سال من حقيبة التلميذةِ كمية من الماء! اعتادت أن تحضرَهُ من منزلها في (حافظةٍ) تحفظُ برودته على الرغم من أن في مدرستها ما هو أبردُ منه!
ترفعُ (لمياء) حقيبتها عن الأرض وتستخرجُ منها محتوياتها من دفاترَ وكتبٍ و.. فطيرة صغيرة.. وقد ابتلَّتْ جميعها بالماء.
في هذه الأثناء تدخل إحدى المعلمات من نفس البوابة، تتأبط حقيبتها وتحملُ في يدها اليمنى كيساً كبيراً، وفي الأخرى كيساً أكبر منه قليلاً، وهي تستحثُّ ابنتها للدخول واللعب مع التلميذات لحين سماع الجرس!! وفي التفاتةٍ سريعةٍ تجد تلك المعلمة صاحبتَنا (لمياء) تجفِّفُ حقيبتها من الماء المنسكب داخلها بعد أن تعرضت الحافظة للكسر من جراءِ ارتطام الحقيبة بالأرض. تدعو المعلمة (فدوى) التلميذة (لمياء) إليها وتسلِّمها الكيس الكبير!! واختصاراً للوقت لا للجهد تسلِّمها في يدها الأخرى الكيس الأكبر، وتطلبُ منها إيصالهما إلى غرفةِ المعلمات!!!
تحمل التلميذةُ الكيسين، وتجدُ أن اليدَ اليمنى أقدرُ على حملِ الكيس الكبير، إلا أن يدها الصغيرةَ لم تتحملْ مسؤوليةَ الثقل، فهي في حركةٍ تبادليةٍ بين الكيسين!!
ربَّما تصدرُ منكَ نظرةُ شفقةٍ حين ترى التلميذة وهي تضع الكيسين على الأرض وتنفخُ في يديها لعل الاحمرارَ المنتشرَ في أرجاء راحتيها يتلاشى كما تلاشت ابنة المعلمة بين جموعِ التلميذات!!! ولكنكَ حتماً ستشعرُ بالحنق حين تعرف أن هذه التلميذة لم يتجاوز عمرها تسعَ سنواتٍ، وابنة المعلمة- التي حدَّثْتُكَ عنها- تلميذة في الصف الخامس!!
أما حين ترى (لمياء) وهي تقومُ بسحبِ الكيسِ بعدَ أن أعياها التعب فستتحولُ نظراتُ الشفقة والحنقِ إلى نظراتِ قهر!! أما التلميذة فنظراتها أسًى وحسرة؛ لأنها تعرضتْ للوقوع وهي تجرُّ الكيسين عبر الدرج المؤدي إلى غرفة المعلمات! وتكرر مشهد الارتطام مرة أخرى، ولكن هذه المرة لم ينسكب الماء، بل انسكب الأكل!! وطعام الإفطار اليوم من مسؤولية المعلمة (فدوى)، وقد امتزجت محتويات الأطباق مع بعضها مشكِّلةً طبقاً آخر غير ما هو معدُّ مسبقاً!
ألا يحقُّ ل(لمياء) أن تقلبَ بصرها في الكيسين، فيعود البصرُ محملاً بالأسى.. والقلبُ بالحسرة؟!
و... يقرع الجرسُ، ترتبك التلميذة، تقابلها حشود المعلمات وهي تقبع بالدرج، قدمها اليمنى على الدرجة الثالثة، واليسرى على الدرجة الثانية، تحاول أن تهرب.. لولا أن المعلمة (فدوى) تقابلها وكمية من الأكل تسيل على الدرج تُشكِّلُ شلالاً يعبقُ بالروائح!! فتمطرها المعلمةُ بوابلٍ من الصراخ.. وتنعتها بالغباء.. تجتمع المعلمات حولها!! وهن يوجهن اللومَ والتوبيخَ لهذه الصغيرة.. في هذه اللحظة تتمنى (لمياء) لو تستطيع الذوبان داخل الصواني!! لو تتحول إلى (حبة فولٍ) أو قطعةٍ من (الجاتوه)! ولم تعلمْ (لمياء) أنها أغلى من (الفول) وأحلى من (الجاتوه)!!
إنها التلميذة التي حضرت للمدرسة لكي تتعلم، وحُشِدَتْ الجهودُ من أجلها، ووُظِّفَتْ هذه المعلمة وزميلاتها لتعليمها.. لا لتحملَ أغراض المعلمةِ ووسائلها، وإفطار المدرساتِ وملحقاته!!
وحين تشجب مثلَ هذه الأمور تُذكِّرُك المعلمات بالكسائي وابنَي الخليفة هارون الرشيد حينَ يهبُّ كلٌّ منهما لإحضار حذائه!! وأين منا ومن الكسائي؟! لم يطلب (المربي) الكسائي من الأميرين أن يحضرا الحذاء، بل امتنان منهما بجميلِ صنيعه معهما أرادا أن يخدماه. ثمَّ إن الإنسان أولى بحمل ما يخصه، سيما حين يكون ليس بمقدور الشخص الآخر حملها.. وهذا عمر بن عبد العزيز (أمير المؤمنين) يقومُ بإضاءة السراجِ بنفسه ويعود لمكانه وهو عمر كما ردَّ على جلسائه!!
وحين نطالب بعدمِ حمل تلميذةٍ واحدةٍ جميع الدفاتر والكتب من الفصل وحتى مكتب المعلمة تضجُّ المعلماتُ بالشكوى، وينعتن ذلك بأنه بابٌ من أبواب تدليل التلميذات! ولا يعلمن أنه من الجميل أن تحمل التلميذات دفاترَهن إلى مكتب المعلمةِ لتصحيحها والاطلاع عليها ومساعدة معلمتهن في ذلك، إلا أنه لا بدَّ من تقسيم الأعدادِ على أكثرِ من تلميذةٍ؛ ليكون أجمل مفهوماً، وأخفَّ حملاً، ورمزاً للتعاون.
كم بقيَ لديكَ الآن من نظرة بعد نظرات الشفقة والحنق والقهر حين تعلم أنَّ المعلماتِ لا يمكن أن يكلفن التلميذات ممن أمهاتهن معلمات في نفس المدرسة بحمل أي أغراضٍ؛ لأن أمهاتهن (المعلمات) يرفضن ذلك؟! أما (لمياء) فلا نوائحَ لها!! فحقيبتها لا زالت تقبعُ أمام بوابةِ الدخول!
هنا كتابُ الرياضيات.. وهناك كتابُ القراءة..
وما زال الماء يندى من حقيبتها...
يا (لمياء) من حقَّكِ أن تضعي حقيبتَكِ خلفَ ظهرِك!! فأمامك في المدرسة حمل طعام الإفطار لمعلماتك.. واستبدال أسطوانة الغاز الفارغة!! وغداً هو من نصيب المعلمة (سهام).. انتبهي أكثر حين تحملين الأكياس.. فالمعلمة (سهام) لا تستخدم صوتها في التأنيب..
بل تستخدمُ يدها للتأديب..
فالصوت... للشرح فقط!!
ص.ب 260564 الرياض 11342 |