توسعت مظانُّ المعارف، والعلوم، وتنوَّعت أقنية المعلومات، بل تجزأت مصادر معطيات الفكر العلمي في مجالاته العديدة، والمتنوِّعة، وتشعَّبت روافده، إذ تدفقت أنهاره، بما لا يستطيع إحصاءها جميعها راغِبٌ في الإلمام، أو باحثٌ همام...، وبات أمر الأخذ منها موطن فحص لسلوك المستفيد، فلا يكاد قارئ لبحث، أو مستمع لعرض، أو مشاهد لموقف بين ذوي الشأن العلمي والمعرفي يقرأ، أو يستمع، أو يشاهد إلا ولسان حاله يصدر من عبارات الإعجاب، ويحرِّك رأسه لشيء من دهشة تعتوره، تعبيراً عن بلوغه جديداً مما قرأ، أو سمع، أو شاهد...، وكثيرون يزجُّون أنفسهم في هذا البحر ويأخذون بموجاته يذهبون مع مدِّها، ويعودون مع جَزْرها، حتى إذا ما استوى لهم البَلَلَ بمائها، خرجوا إلى الشَّاطئ وهم قد وجدوا شيئاً ممَّا قرأوه مطابقاً، وآخر ممَّا استمعوا إليه مشابهاً، وكثيراً ممَّا شاهدوه مُقلَّداً...!!
فيذهبون ينعون الأمانة، ويبحثون عن الصِّدق، ويتطلَّعون إلى الإسناد.
إن قرأوا رسائل علمية وجدوا فيها الخبرات المتداخلة، بالنقل المباشر لسطر من هنا، ولعبارة من هناك، مُحَوَّرةً ما شاء لصاحبها أن يختبئ، ظاهرةً ما شاء لصاحبها أن يجترئ...
تحمي بعضَهم مواقعُهم، وتصونُ بعضَهم ألسنتُهم...
فالنَّقل المباشر سبيلٌ، والتَّمويه الظَّاهر دليلٌ، والمُبَرَّرُ غير مُقنعٍ، وقولُ الحقِّ في شأنهم غيرُ مُسْمِع...
يساعد على ذلك تدفُّقُ الينابيع، وتشعُّبُ الرَّوافد، وانتشارُ المصادر، وكثرةُ المنجَز، وتنوُّعُ الموجود، واتِّساعُ مساحةِ المسافاتِ الفاصلِة، والممتدَّةُ، بلغاتٍ إن طوَّعها بعضٌ، لم تستقم ألسنةُ آخرين عليها، وإن فكَّ حروفَها نفرٌ، عصت أبجديَّتُها على سواه...
النَّاشرُ نشطٌ،
والواضعُ متعدِّدٌ،
والتَّوثيق يَحْصي ولا يُحصي، ومؤشِّراتُ البحثِ تضمُّ، وتَبْسُطُ، وتُقَرِّبُ وتُمَكِّن، لكنْ بقَدَرِ مَنْ همَّتُه تصلُ إليه، وتغفلُ، وتَفْرُغُ ولا توصل، ولا تُغطي كلَّ ما لمْ تصلُ إليه همَّةُ من يُحصي، أو يُوثِّق وفي خضمَّ هذا الكم...
وفي صور هذا الكيف...
تعيث نفوسٌ كثيرة في مكمن الأمانة، وتُفرِّط في التَّوثيق، وتَلَّبس ثوبَ النَّقاء...، وتتوارى خلفَ الكثرةِ، والتَّداخل، والتَّباعد، والجهلِ بكلِّ ذلك الذي لا يدريه الكلُّ، ولا يقفُ عليه الجميعُ.
وتُحْرَجُ الأكاديميةُ بأناسها...!
إن هم على هذه القدرة من خوض البحار بلا حصانة، أو لياقة، فإذا هم مهما امتدَّ بهم الغوصُ، عائدون إلى الشَّاطئ، تزفرهم موجةُ (صُدْفةٍ)، أو تعرِّيهم لحظةُ نورٍ.
فالحقيقةُ لا محالَة آتيةٌ...
والعالمُ قبضةٌ واحدةٌ، إذ لم يعدْ قريةً صغيرةً...!!
|