كنت عند باب جامع ابن عثيمين في عنيزة، الجامع الكبير الذي يجمع ما يقارب عشرة آلاف مصلي كل جمعة، قبيل النداء الثاني استوقفت نفسي مرغماً عند طفل يبيع السواك، لا أدري هل وقفت تطبيقاً للسنة؟ أم عطفاً على ذلك الطفل الذي يوحي مظهره كبائع صغير لم يقف عند باب المسجد إلا ليسد رمق أرملة في البيت مقصورة تنتظر بضعة الريالات لتجهز بها بنياتها للمدرسة أو تشتري بها طعاماً لصبية يتضورون جوعاً؟ هكذا تصوري.
وقفت عنده ولم يخطر ببالي ان أتمثل قوله تعالى {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} سورة النساء (9) إلى أن قطع حديثي مع البائع الصغير صوت عربي نجديّ بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وقال: (هووووووووووه............ ولدددددددددد........) فانتبهت وانتبه صغيري، وإذا برجل يظهر انه خمسيني ومعه طفلان أمسك بيديهما بكل لطف، فقال بصوت الفظ الفجّ: (إذا أذن الأول حرم البيع) فالتفت إليه وقلت: (لا)، فقال: (إلا) ثم استدل بعبارة سمجة باردة جعلتني اندهش لغرابتها ولم أستطع ان أرد عليه إذ ألقى زخرف قوله ودخل إلى المسجد لا يلوي على أحد.
سبحان الله!! أيها المفتري، ألا تعلم ان الله توعد المفترين بعدم الفلاح؟!
أم لم تقرأ قوله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} سورة النحل (116).
أبطل البيع، وأثَّمني، وأثم الصغير إذا لم نمتثل قوله، علماً بأنني لا أتحقق ان الصبي من أهل وجوب الجمعة، ولم يفهم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} صورة الجمعة (9)، وزاد الطين بلالاً أنه لم يمكني لعجلته ان أبين له بطلان قوله.
شاء الله تعالى أن أكون خلفه في الصف وكان ان تكلم أو أشار مع الهمهمة أثناء الخطبة ليبعد أحد الأجانب عن مكان محجوز أمامه وتعجبت كيف يفتي بحرمة بيع الصبي ويفسد جمعته بما فوق (صه)؟!!
أيلعب بالفتوى؟!!
عجيبة تلك الجرأة على الفتوى!!!
والأعجب الجمع بينها وبين التورع في ظهور الآخرين !!!
وا أسفاه كيف يحمل التورع في ظهور الآخرين على التحريم ثم التفكير لاحقا فيما يترتب على تلك الفتوى إذا كان الحقُّ لغيره، وأما إذا كان الحقُّ له فأول ما يستهل به فتواه قول المولى عز وجل {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} سورة الحجر (49).
وا أسفاه على من تلطف مع أبنائه غاية اللطافة، وتشظف مع أبناء الآخرين غاية الشظافة، وتناسى ان الله ذكره بموقف عظيم لو استحضره ضميره لم يقدم على ما فعل، قال تعالى {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا}، ألا يخشى هذا الرجل ان تدور الدوائر الدائرة، والأيام الدائلة، فيقف طفلاه المدللان أمام باب جامع عنيزة فيأتي من ينهاهما عن منكر لم يفعلاه لأنهما ضعيفان لا يستطيعان الكلام.
أكتب هذا المقال ولا أعرف ذلك الصغير الذي أكبرته حين انتهره الكهل حيث لم يزد على ان رفع عينيه إليه ثم عاد إلى رزقه ولم ينبس ببنت شفة وكأنه تمثل قوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} سورة الأعراف (199).
أكتب هذا المقال ولا أعرف ذلك الكهل هداه الله، وكلي أمل أن يقرأه لعل الله أن ينفعه به.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى (النداء الأول للجمعة إذا وقع البيع والشراء بعده فلا بأس، لأنه لا نهي فيه).
( * ) قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة/جامعة القصيم |