* الجزيرة - خاص:
الزواج هو الطريق الأمثل لبناء علاقة صحيحة وسوية بين الرجل والمرأة، لتكوين أسرة وإنجاب الذرية بما يتفق والفطرة التي فطر الله عليها كلاً من الذكر والإنثى، من حيث الحاجة إلى الآخر، وفي الحلقة السابقة تعرفنا على بعض الأسباب التي تعطل سنة الزواج، والآثار السلبية، والمضار المترتبة على ذلك بالنسبة للفرد والمجتمع، وعرضنا لآراء عدد من العلماء والمختصين لمعالجة الأسباب التي تؤدي إلى تعطيل الزواج من اهتمام بالجوانب المادية، كالمغالاة في المهور، والإسراف في حفلات الزواج، وغيرها من الأسباب.
وفي هذه الحلقة الثانية نواصل رصد هذه الأسباب، والآثار، وبحث سبل علاجها، ومعرفة مسؤولية المجتمع في هذا الأمر على ضوء ما جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء.
*******
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
*******
متاع الدنيا
في البداية يقول فضيلة الشيخ رضوان بن عبدالكريم المشيقح رئيس هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمدينة بريدة ومأذون الأنكحة:الزواج هو الطريق الوحيد لتكوين الأسرة التي هي نواة المجتمع، وأساس بنائه السليم: ولا يقوم مجتمع فاضل إلا إذا قامت قبله الأسر، ولا تقوم الأسرة إلا بالزواج، فبالزواج تنمو الأسرة والصلات الاجتماعية، فينضم إلى أسرته أسرة وإلى عشيرته عشيرة، أولئك هم أصهار وأخوال وأولاده وأنسابه وبذلك تتسع دائرة العائد.
ومما يؤسشف له ان بعض الرجال يفرون من الزواج، لأنهم يريدون أن يعيشون عمرهم دون رباط يربطهم بالمسؤولية، أو بيت يضمهم، أو تبعة تلقى على كواهلهم، ومثل هؤلاء أصلاً لا يصلحون للحياة ولا تصلح بهم، لأن الزواج رباط وثيق، وميثاق غليظ، وهو مسؤولية مشرتكة بين الأب والأم منذ قال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ}، ومن مقاصد الزواج إنه يهذب الغريزة الجنسية، ويحقق النسل، ومن تمام الدين وهو أساس بناء المجتمع.
وما دام أن الشباب موجودون والفتيات موجودات فلماذا تحدث المشكلة (مشكلة العنوسة) وتأخر الشباب عن الزواج، ولكن نحن الذين احدثنا هذه المشكلة بأنفسنا عندما عسرنا ما يسر الله وعقدنا ما بسط الشرع ووضعنا العواقب والعقبات أمام الشباب فلا غرو ان شددنا فشدد علينا، واصبح الزواج في كثير من البلاد الإسلامية مشكلة المشكلات إن لم يكن مستحيلاً.
عقبات في الطريق
ويلخص الشيخ المشيقح العقبات المصطفة في طريق الزواج فيما يلي:
1 - عقبات مادية: وعلى الرغم من أن الإسلام دعا إلى تيسير الزواج واستجاب المسلمون فيسروا وسهلوا وكانت أمور الزواج من اسهل ما يكون حتى جاء في هذا الزمن فعسروا، حتى رأينا العزوبية عند الشباب والعنوسة عند الفتيات حتى بلغوا 30 سنة ولعلهم لا يتزوجون ولكن المشكلة أننا نحن الذين أوجدنا ذلك حيث وضع الناس عقبات مادية كثيرة وضعها الأولياء حيث لا يستطيع الشاب الذي ليس بيده مال الزواج والله تعالى يقول: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بما معه من القرآن.
ولكن الناس الذين ينظرون إلى المظاهر والماديات هم الذين وضعوا هذه العوائق وجعلوا المادة والرياء الاجتماعي الذي تتظاهر به النساء بنت فلان دفع لها كذا وأعطيت كذا وشبكت بكذا وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت على درع قدمه لها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأرضاهما.
والناظر لواقع الناس اليوم ليعجب من هذا الأمر، فمثلا الذهب الذي يدفع للمرأة والشبكات والهدايا والولائم واختلاف الحفلات في الزواج، فتجد حفلاً للزفاف، حفلا للشبكة، حفلا للخطبة، يعرف الأسباب الحقيقية، ولذا ينتظر الشباب حتى يتمكن توفير ما يطلب منه، فيجمع ما عنده من المال لكي يتزوج وربما استدان لأجل إتمام الزواج والدين هم بالليل وذل بالنهار، وربما استدان من البنك وارتكب أكبر المحرمات (الربا) بسبب استدانته من البنك فهذه عقبات مادية لا معنى ولا فائدة لها.
2 - العقبات الاجتماعية: هناك بعض الاعتبارات عند بعض الناس فيتقدم بعض الشباب للزواج من أسرة فيرفض لأنه من عائلة كذا أو قبيلة كذا أو كذا، وهي معايير ما أنزل الله بها من سلطان.
3 - عقبات نفسية: بعض الشباب أو الفتيات تجده يرسم في خياله امرأة غاية في الجمال في خياله ويرغب الزواج بمثل هذه وهذا مستحيل، فلا نجد امرأة كاملة من جميع الجهات مال ودين وجمال.
الرجال الشجعان
ويتساءل الشيخ المشيقح لماذا تترك هذه العقبات مما السبب في تأخر زواج الشباب وعنوسة الفتيات بدون عيب شرعي، إلا أن المجتمع هو الذي وضع هذه الصعوبات والعقوبات على نفسه وشدد على نفسه ولم يشدد عليه الشرع فنحن في حاجة إلى رجال شجعان يخوضون الميدان يغيرون ويزيلون هذه العقبات، والنصوص من الكتاب والسنة وأخبار السلف الصالح وعنايتهم بالزواج اتباعاً لسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أخبارهم في ذلك كثيرة ومستفيضة.
بيت العنكبوت
من جانبها تقول د. لولوة بنت عبدالله القضيبي عضوة هيئة التدريس بكلية التربية للبنات بالرياض: إن الزواج سنة الأنبياء والمرسلين قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} فالزواج سبيل المؤمنين استجابة لأمر الله سبحانه: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وكذلك استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج).
وعلى هذا فالزواج: صلة شرعية تبرم بعقد بين الرجل والمرأة بشروطه وأركانه المعتبرة شرعيا ولأهميته قدمه اكثر المحدثين والفقهاء على الجهاد، وهو يمثل مقاما أعلى في إقامة الحياة واستقامتها، لما ينطوي عليه من المصالح العظيمة ومنها حفظ النسل البشري لإقامة الشريعة وإعلاء الدين، وعمارة الكون وإصلاح الأرض، ومن المصالح كذلك حفظ العرض وصيانة الفرج وتحصيل الإحصان والتحلي بفضيلة العفاف عن الفواحش.
ومع هذه الأهمية للزواج إلا أن هناك بعض الفتيات وأولياء أمورهن يعطلون هذه السنة العظيمة بحجج واهية أوهى من بيت العنكبوت، فالفتاة تريد إكمال دراستها وتعتقد أن زواجها سوف يعيق إكمال مسيرة تعليمها وهذا خطأ كبير فالزواج استقرار وهدوء وراحة وسكن بين الزوجين، وتستطيع من خلالها الفتاة أن تجمع بين مهمتها الأساسية كزوجة وأم وبين دروها في المجتمع كإنسانة متعلمة واعية ترفع الجهل عن كاهلها وعن كاهل من تعول، أما ولي الأمر هداه الله فقد يتسبب في ضياع ابنته دون أن يشعر فهو يعضلها أن تتزوج ولا يعلم أنه يحرمها السعادة ويسرق الفرحة من بين عينيها حينما ترى قريناتها يشعرن بدفء الأمومة والراحة والسعادة.
وولي الأمر غالبا ما يكون غرضه أن يستمتع بما لها بعد تخرجها، ألا يعلم أن هذا المال هو حق لها أباح لها الإسلام أن تتملكه أن ارادت وهبت أو انفقت، وليعلم كل أدب وولي أمر أنه مستأمن على هذه الذرية وليبادر بتزويج ابنته إن تقدم لها الرجل الصالح في دينه وخلقه لكي لا يقع الفساد في الأرض.
التسموا الغنى بالزواج
وتضيف د. لولوة: وأقول لمن أورد شبها على الزواج أنه سبب في الفقر فإليه أسوق هذه الآية الكريمة: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وذكر المفسرون: أن هذا وعد من الله سبحانه بإغناء من سلك طريق الزواج وقصد إعفاف نفسه، وفيه حث على الزواج، لكن لابد من التقوى، يقول تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
وتطالب د. لولوة القضيبي بضرورة تكثيف المحاضرات التوعوية حول هذا الموضوع داخل الكليات، وعقد ندوات واستضافة أستاذة في الشريعة والطب النفسي لبيان أهمية هذا الموضوع وخطورة العزوف عنه، وكذلك عقد دورات تأهيلية للطالبات المتزوجات أو المقبلات على الزواج لكي لا تكثر حالات الانفصال لا سمح الله لأن هناك من يعقد صلة بين الزواج في مرحلة الدراسة وبين الطلاق، مع العلم أن أكثر حالات الطلاق ترجع إلى عدم تأهيل الزوجين لدخول حياة جديدة وتحمل مسؤوليات عظيمة في تربية جيل مسلم يخدم أمته ووطنه، إضافة إلى توزيع الاشرطة ووضع مسابقات عليها وجوائز حول هذا الموضوع مثل شريط (بيوت مطمئنة) للأستاذ الدكتور ناصر العمر، وكذلك (السحر الحلال) (وفن التعامل مع الزوجة) للدويش على أن تكون هذه المسابقة أسرية يشترك فيها أفراد الاسرة.
الصيانة عن الحرام
اما الشيخ عبدالله بن عبدالكريم الكريم إمام وخطيب جامع البازعي ومأذون الأنحكة بسكاكا فيقول: الزواج نعمة أنعم الله بها على عباده وفيه صلاح للفرد والمجتمع وتكوين للأسرة،
والإعراض عن الزواج ليس مما يحبه الله ورسوله ولا هو دين الأنبياء قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}، وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)، رد على قوم قال أحدهم: أنا أصلي الليل أبداً وقال الثاني: أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الثالث أنا أعتزل النساء فلا أتزوج، لذا فعلى المسلم أن يبادر بالزواج في شبابه لما له من فضائل ويختار شريكة حياته وأن تكون ذات دين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)، وأن تكون ولوداً ودوداً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
الحجة الباطلة
يستطرد الشيخ بن عبدالكريم قائلا: لكن ما بال بعض الشباب لا يقدم على الزواج ويتهرب خوفا من المسؤولية أما يعلم أن الله وعد على الزواج بالغنى بقوله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهٌِ} وروى الإمام أحمد عن ابي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، وعزوف بعض الشباب عن الزواج بحجة إكمال الدراسة وهذه حجة باطلة لأن النكاح لا يمنع عن مواصلة الدراسة فالزوج الصالح إذا وفق بزوجة صالحة صار كل منهما عوناً للآخر واصبحت حياتهم سعيدة وتكلل زواجهم بالتوفيق وماذا ينفع الشباب إذا تأخر عن الزواج واكمال الدراسة وماذا ينفع الفتاة إذا أكملت دراستها وفاتتها سعادة الزواج وأصبحت عانساً فلا أولاد يسعدونها في الدنيا ويذكرونها بعد الموت.
ومن معوقات الزواج ايضا الاعذار التي يقولها بعض الأولياء الذين لا يخافون الله ولا يرعون أمانتهم ولا يرحمون من تحت أيديهم من النساء بقولهم للخاطب: البنت صغيرة، البنت لا ترغب الزواج، (البنت فايتة لأحد الأقارب) ليرد الخاطب طمعاً في مرتبها وهذا فيه خيانة للأمانة وإضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته وسوف يحاسب على ذلك.
ومن معوقات الزواج ايضا والكلام للشيخ بن عبدالكريم غلاء المهور والمبالغة بنفقات الزواج والإسراف في الولائم التي لا تؤكل بل تمتهن وترمى حتى اصبح الزواج لدى بعض الشباب من الأمور المستحيلة وإذا أقدم عليه لابد من الاستدانة وتحمل ديون كثيرة تجعله اسيراً لدائنه فترة طويلة من الزمن، فهل المرأة سلعة تباع وهي مخلوق عظيم فهذا أمر لا مبرر له قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الا لاتغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فتقليل المهور فيه تيسير لامور الزواج أما المغالاة فيها تعطيل لسنة سيد المرسلين ومن مفاسدها إغلاق باب النكاح وشغل ذمة الزوج بالديون وصعوبة الحياة الزوجية، وإذا لم يتلاءم الزوج مع زوجته لا يفارقها إلا بصعوبة بالغة وربما يطالب بما أعطاه.
النظام الاجتماعي
وتقول د. سماهر بنت عبدالله الصالح عضو هيئة التدريس بكلية المجتمع بالأحساء: يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله (هذا أمر بالتزويج وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى جوابه على كل من قدر عليه)، فبذلك يكون الزواج تشريعاً سماوياً ونظاماً اجتماعياً عالمياً يحدد العلاقات الاجتماعية، بين الجنسين ويعطي الأسرة صفتها الشرعية وهو في نفس الوقت ضرورة اجتماعية وبيولوجية له منافع عظيمة أعظمها انه وقاية من الزنا وقصر للنظر عن الحرام ومنها حصول النسل وحفظ الأنساب وكذلك حصول السكن بين الزوجين والاستقرار النفسي ومنها تعاون الزوجين على تكوين الأسرة الصالحة التي هي إحدى لبنات المجتمع المسلم ومنها قيام الزوج بكفالة المرأة وصيانتها.
وبما أن الزواج نظام ضروري إصلاحي فحتماً تعطيله يؤذن بوجود مشاكل لا حصر لها وحدوث خلل في المجتمع يؤدي إلى انحلال المجتمع وظهور مشاكل لاحد لها كما أخبر بذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: بقوله: إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
مخالفة سنة الله
وتضيف د. سماهر الصالح: وهناك اسباب ودوافع تجعل البعض يناقض الفطرة ويخالف هدي الإسلام بالامتناع عن الزواج منها: تصور البعض للزواج على أنه يشغل عن الطاعة والعبادة فيتركه اعتقاداً منه بالتقرب إلى الله كقصة النفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذين سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى قول أحدهم - وأنا اعتزل النساء فلا اتزوج ابداً، الانخداع والنظر وراء بعض الدعايات المغرضة التي تصور الزواج بأنه قيد ومسؤولية لا حد لها، والاعتقاد بأن الزواج من معوقات الدراسة أو الوظيفة وأنه لا يتم التوفيق بينهما، وطلب الكمال في الجنس الآخر وتحديد مواصفات ومطالب مثالية وعدم التنازل عنها فإذا لم تتوفر تخلى عن فكرة الزواج وامتنع عنه ومع الوقت ينتهي الطلب عن الفتاة وتقل الرغبة لكليهما، وترك الزواج في بعض المجتمعات لكثرة تكاليفه والتزاماته المالية والمغالاة في المهور والامتناع عن طلبه خوفا من الإغراق في الديون، والفساد الأخلاقي وإيجاد البديل لنيل الوطر بالانحلال والفجور مما لا يستلزم لا حقوق ولا مسؤولية، وقد يرجع العزوف إلى أسباب نفسية كالخوف من عدم التوفيق أو الخوف من مشاكل عائلية باعتقاده أو خوفا من المواجهة به أو معرفته من قبل الطرف الآخر، وقضية الحجر أو المنع عند بعض القبائل إلا من القريب المحدد أو من نفس القبيلة.
وهذه الأسباب قد تكون بإرادة الشخص او خارجة عن إرادته كأن يفرضها عليها مجتمعه مما يترتب عليها بعض الآثار والنتائج كبقاء الرجال عزاباً وبقاء البنات عوانس وهذا معناه تعطيل الزواج ومخالفة سنة الله في الحياة، وحصول الفساد الاخلاقي في الجنسين عندما ييأسون من الزواج إذ يبحثون عن بدائل لذلك، وكثرة المشكلات الاجتماعية، بسبب عدم جريان الامور بطبيعتها ووضع الشيء في غير موضعه، وحدوث الأمراض النفسية لدى الشباب من الجنسين بسبب الكبت وارتطام أفكارهم بخيبة الامل، وخروج الأولاد عن طاعة شريعتهم وكذلك عن آبائهم وأمهاتهم وتمردهم على العادات والتقاليد الكريمة الموروثة، ولقد عالجت الشريعة الغراء هذا الفعل الشاذ والمخالف بعدة أمور: حثت على الزواج مما يحفظ لكلا الجنسين كرامته وصيانة لعفته لان كلاً من الجنسين مفطور للميل إلى الجنس الآخر ولا سبيل لحفظ الفرج وغض النظر إلا بالزواج {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر واحصن للفرج.. الحديث)، كما رغبت الشريعة في الزواج بكونه دافعاً للفقر كما في قوله تعالى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (التمسوا الغنى في النكاح)، وتجديد بعض من منافع الزواج وذلك حفظ النسل ودوام للنعم ومن أسباب دوام العمل بعد الموت كما في الحديث (أو ولد صالح يدعو له).
وحول حدود مسؤولية المجتمع المسلم بكل فئاته في هذا الصدد تقول الاستاذة سماهر الصالح: هذه مسؤولية تبدأ بالتبصير بأهمية الزواج وأن تعطيل الزواج فكرة خاطئة مخالفة للحس والعقل والوحي السماوي وتشريع الخالق البارئ وما يجره من فساد وإخلال بنظام المجتمع الإنساني وهذا التبصير يقوم به العلماء وطلبة العلم والخطباء من خلال الندوات والمحاضرات والخطب، وعقد الاجتماعات لمعالجة المشاكل وتحديد العوائق التي تعيق الزواج، كذلك تبصير الآباء والأمهات والشباب إلى عدم المغالاة في المهور ونفقات الزواج مما يعود بالنفع على المجتمع، وتأسيس منظمات وهيئات مسؤولة عن التوفيق بين الأسر بالزواج وتيسير النفقات وهذه خدمات يقوم بها المجتمع من ستر وصيانة وإعانة على العفاف ومحافظة على الشرف والفضيلة والقيم الإنسانية، والعمل على وضع استقصاء سواء لكل مجتمع أو عائلة أو فرد على حدة لتحديد العوائق والوقوف عليها لاتخاذ ما يلزم إما بإزالتها أو تقليصها.
أسباب العزوف
ويحدد الشيخ عبدالله بن محمد اللحيدان مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية أسباب العزوف عن الزواج في ثلاثة انواع من التكاليف هي:
اولا: التكاليف الاجتماعية:
فالخاطب والمخطوبة يريد كل منهما أو من أهليهما شريكا ذا مواصفات قد لا تتوفر بيسر، بل قد يستحيل توفرها، ولو توفرت لفترة فلا يضمن استمرارها، ومن أشكال الإشكالات ما تعلق بالتمايز في المستويات الاجتماعية، المالية، والعلمية، وغير ذلك والوصية هنا هي ما أوصى الله به من قوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (إن جاءكم من ترضون دينه فزوجوه).
علينا أمام هذا التباعد الحاصل في المستويات وصعوبة التوفيق بين المتطلبات، أن نعي أننا أمام معضلة لابد أن نتنازل فيها عن بعض ما اعتبرناه في يوم ما أمرا مشروطا على خطأ منا، لنعدل من معاييرنا أمام تفاقم المشكلة، وتكدس العزاب والعوانس في البيوت.
ثانيا: التكاليف المالية:
في المهر، أو فيما يلحق به من تكاليف الزواج، ورغم كثرة الكلام حول هذا الامر، وخروج تجارب عملية تعالجه، مثل التزام القبائل أو طوائف من المجتمع بسقف محدود للمهر، وتكاليف الزواج، ومثل انتشار ما يعرف بالزواج العائلي المتجه نحو تقليل المدعوين على حفل الزواج، وقصور ذلك على أهل العروسين فحسب، ومثل الاكتفاء بإقامة حفلات الزواج باستراحات أقل كلفة من ردهات الفنادق وصالات الافراح، إلا أننا ما زلنا نجد أن ذلك لا يتجاوز شرائح قليلة من الشباب المقبل على الزواج، والأكثر منهم لا تزال تتكتل امامه عقبات مالية واسعة، وليس الالزام بالتدخل الرسمي من الدولة حلا لذلك، ولا الانكفاف عن الزواج كذلك حل، وفي ظني أن جهود التوعية بمخاطر العنوسة والعزوبية للمجتمع سيكون لها دور في دق ناقوس الخطر أمام أولياء الأمور، ومن بيده عقدة النكاح.
وليتعاون الجميع، ويقفوا يدا واحدة في كبح جماح الجشع، والإسراف غير المبررين لتكاليف الزواج، وربنا يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (ابركهن أيسرهن مهوراً) وإن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم في مهور بناته في غاية اليسر، ليكون مثلا يقتدى به، فما دفع لامراة من نسائه فوق أربعمائة درهم، وما قبل لبناته اكثر من أربعمائة درهم، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم شرعت لنا وليمة الزواج، وحثنا عليها، فقال صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة) فأين نحن من ذلك؟
ثالثا: التكاليف المعيشية:
وهذه مناطها متعلق بالزوج والزوجة بعد ارتباط كل منهما بالآخر، وقد يتدخل الأهل فيها من بعيد أو قريب بما يتعلق بنوع السكن، مستوى التأثيث، وما يلزم لفتح باب الزوجية، وهنا يجب النظر للمسألة من باب واحد فحسب، وادع بقية الأبواب، فهي أيسر في المعالجة، وهذا الباب يتعلق بطرح سؤال هو: ما الذي جعلنا دائما نتجه وفي كل الأحوال إلى خروج الابن من بين العائلة مع زوجته ليعشيا في بيت مستقل وهل ذلك ضروري على كل حال؟ بل هل كان أحد يصلح لذلك.
بيت العائلة
ويجيب الشيخ اللحيدان: اعتقد ان التفاتة قريبة إلى الوراء تجعلنا نعي كيف كان آباؤنا يعيشون في كنف ما يسمى ببيت العائلة جميعا مع ابنائهم، بل أحيانا تجد الجد والأب والابن وزوجات الجميع في هذا البيت العائلي الكبير، وما أجمل ذلك وما ابسطه، ولا يعني ذلك أننا نطالب بأن تصبح جميع بيوتنا بيوت أسر كبيرة، فواقع الحال قد لا يسوغ ذلك، ولكن هناك فئات واعتقد أن عددها لا بأس به، تحتمل هذا، وبعض الأسر لا يوجد في البيت إلا الأب والأم وحدهما مع ابنهما قبل الزواج، ولما تزوج خرج ينشد ما يسمى بالاستقلال مع مفهومه الخاطىء هنا، وتركهما وكأنهما في دار العجزة ينتظرون من يجود عليهما بأنس.
ومما يجب علينا أيضا ألا ننساق وراء عجلة التقليد، فنلزم انفسنا بما ليس بلازم، ونسعى حثيثا لتكليف النفس ما ليس بمقدورها، وخصوصا إذا عرفنا أن الزوج والزوجة هما كما قال تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، وكما قال عن زوجاتنا انهن (سكن لكم)، إذ قد اصبحا نفسا واحدة، وسكن واحد فما يسر أحدهما يسر الآخر، وما يتعس الطرف الأيمن يؤثر بلا محالة الطرف الأيسر.
ومجتمعنا محتاج إلى بناء الأسرة على اليسر لتعيش فاعلة فيه، مستقراً حالها، منتجاً افرادها، فلابد من تكاتف الجهود وبذل الأسباب لتيسر الزواج، ومكافحة ظاهرة العزوف عنه بين اوساط الشباب والشابات، وليبدأ كل منا بنفسه فيلتفت إليها وإلى ذويه للتشجيع على حل هذه المعضلة، وتيسير الزواج ليكون قدوة لمجتمعه في التعاون على الخير وأسوة حسنة باتباعه الأسوة الحسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
|