التاسع من أيار وآلات الحصاد الضخمة القادمة من الشمال تدير محركاتها ذات التربينات البخارية، وأعمدة الدخان المتصاعدة منها بألوانها البيضاء تلامس نسيم الصباح الخجول، فتسافر على الأفق كسراب الاوز المهاجر بحثاً عن قصة أخرى من قصص الحصاد.
***
سنابل القمح التي جفت ورق عودها فلم تعد تحتمل الوقوف، فنحت برؤوسها وكأنها تحيي القادمين الجدد، تميل فترقص على وقع مناجلهم وصفير آلاتهم، الطيور التي أفصح النور عن فرحتها، تزف بشائر الحصاد بألحان لم يعهدها الصباح من قبل، والصغار على أعجاز النخيل الهالكة ترنو من أعشاشها القشية إلى الأفق الواسع وتنتظر ما سوف يعود به أبواها من طعام كعادتها كل صباح.
***
عربة صغيرة يبدو أنها من بقايا الحرب العالمية الثانية بلونها العتيق المصفر، وقمرتها المكشوفة، تثير الغبار خلفها وهي تتقدم ببطء وتجر ثلثاً من الأغنام ربما قد اقتنصهن الموت في ساعات الليل المتأخرة، عبد الرحمن الشاب الصغير الأسمر يقود تلك العربة خارج المزرعة والنسور التي تحوم في الجو ستجد اليوم ما تسد به جوعها الممتد عدة أيام.
***
أبو عبد الرحمن ململه السهر فلم ينم طويلاً ليلة البارحة، وكان ينتظر الصباح الذي يطول انتظاره كلما حان موعد الحصاد من كل عام، و(أمام) عامل المزرعة ذلك الرجل الكبير، لم تثن سنوات عمره الستين عزيمته الشامخة رغم الغربة وقساوة العيش، فقد أثار البقاء هنا من أجل عائلته الصغيرة التي تحلم على الجانب الآخر من الكرة الأرضية بعودته يوما ما.
زوجته عائشة التي تصارع المرض قد بدت على جبينه قساوة ما تعانيه، تقرأ في تقاسيم وجهه حزناً دفيناً يخفيه تحت ابتسامات تذبل وتجف بسرعة، يشعر بالأسى وهو بعيد عنها ويريد ان يرد لها ديناً يحمله ثقيلاً على كاهله المنحي تحت وطأة السنين وتعاقب الليل والنهار، بالأمس فقط بعث بأجرة الشهر الذي لم يمض منه سوى تسعة أيام إلى زوجته المريضة، فقد سأل أبو عبد الرحمن ان يدفع له الأجرة قبل موعدها ودموعه الدافئة حينها بحرارتها وحنينها تنسكب على وجنتيه الملتصقتين بجمجمته الصغيرة.
***
وبينما كان الفجر يغفو تحت عباءته النرجسية بدأت أشعة الشمس الذهبية تتسلل بهدوء، فتصبح ظلال الأشياء شاهداً على بصمات الحياة تحت الشمس، أبخرة المياه المنبعثة من حدائق الرمان وأشجار التين تعكس حال الأرض وجوفها المستعر ببراكين الغضب وآيات من المجهول طفت على السطح من أعماقها السحيقة، حقول القمح عادة من جديد لتعانق لآخر مرة أشعة الشمس المبعثرة وكأنها عقود من الذهب وكنوز تتلألأ تحت قرص الشمس الدائري.
***
من بعيد شاحنة أخرى أتت مسرعة تطوي طريق المزرعة الوعر دونما اكتراث، ذهول يسود المكان وصمت من الفضول ينتظر الكلام، تتوقف عجلاتها التي كانت تسابق الزمن وتحمل أخبار القدر، لتعلو حينها صرخات (إمام) بصوته الدافئ... ونبراته المتقطعة... أخذ يركض والدموع تغرق عينيه... التف على نفسه ثم جثا على ركبتيه... أخذ يحمل التراب فيجعله على رأسه.. يلطم ما تبقى من لحم يكسو فكيه، يشد شعره الأبيض فوق أذنيه، يقف مرة أخرى يرفع يديه ثم يعود فيجثو على ركبتيه، يعفر وجهه بالتراب، يضرب راسه بالارض، حتى جاءه من حمل له الخبر، أمسكه فقال ألا تؤمن بالقدر، ألا تعرف ان الموت حق، كلنا سنموت، وعائشة ليست هي أول من مات، ولن تكون آخر من يموت، لا تكن للحزن قتيلاً، أو تجعل لليأس سبيلاً، ابنتاك تنتظرانك هناك، تحلمان بعودتك، يحدوهما الأمل بان تبقى لهما بعدما غيّب الموت أمهما، لن يجدي نفعا ما تفعله بنفسك يا رجل، لقد مضى الموت بعائشة، فلن يكون لاحد في هذا الكون ان يعيدها للحياة مرة أخرى، ينكب هو الآخر عليه بالبكاء.
يجلس (امام) ودوامة الغبار تغطي سائر جسده النحيل، يسمح بأطراف ثوبه المهتري ما تبقى من دموع امتزجت بذرات التراب، يرفع رأسه، ينظر للسماء، يتأمل الشمس، يحدق بالأرض، يكز على أسنانه، يتذكر عائشة، يدرك ان قيمتها ليس ببعض الدموع المالحة، أو نبرات الصراخ العالية، يرفع يديه للسماء، ثم يسجد لله شكراً على قضائه وقدره.
انتهى موسم الحصاد.
|