Friday 26th November,200411747العددالجمعة 14 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

فإن الماءَ ماءُ أبي وجَدِّي فإن الماءَ ماءُ أبي وجَدِّي
عبدالله بن ثاني

إن العربي في هذه المتوالية الممتدة إلى ما لا نهاية بلا محصلة نهائية يبدو كما لو أنه نظرية رياضية هلامية استعصت على التجارب أن تحلها وأن تثبت صحتها وحقيقتها على ظهر هذا الكوكب، وهذا هو أقصى ما يُشعر العرب بالاغتراب بمعناه التاريخي العميق، ولعل ما يجري الآن من مصادرة للتراب العربي والمياه العربية في ظل أهميتهما عند العرب امتداد لقضيتهم الأولى التي قرؤوها بدقة متناهية منذ أن قال سنان بن الفحل :


وقالوا قد جننت فقلت كلا
وربي ما جننت ولا انتشيت

والشاعر كما بين المرزوقي في شرحه للحماسة أراد أن يقول للناس لما أظهر إنكاره واعتراضه واحتجاجه على اغتصاب مائه ، وتشدده في إبائه، حتى كانت تصرفاته مثيرة للجدل، فوصفوه بالجنون أو الانتشاء، ولكنه استنكف مما سيم ووصف به لأنه ليس مجنوناً ولا سكران. وصرخ فيهم: كل ما رأيتموه مني نتيجة منطقية لما تعرضت له من الاستلاب ومصادرة حقي المشروع، وأحلف لكم بالله نافيا ما نسبت إليه ووسمت به من الجنون والسكر جميعا، ثم أخذ يبين كيف استنكر ما دفع إليه، واشمأز مما عرض عليه حتى قيل فيه ما قيل.


ولكني ظلمت فكدت أبكي
من الظلم المبين أو بكيت

لكن استدراك بعد نفي. وهذا الكلام بيان ما أنكر منه حتى قيل إنه جُنَّ. وذكر البكاء ليرى أنفته وامتعاضه، وإنكاره لما أريد ظلمه فيه واغتياظه.. فأما العرب فإنها تنسب أنفسها إلى القساوة، وتعيِّر من يبكي لذلك ، ولكن سناناً هانت عليه رجولته عندما رأى كرامته تغتصب وتصادر على يد أبناء عمومته ونسي سنان أن الدمع في بعض المواقف رجولة كما قال الشاعر الشعبي ذات موقف وزاد من قهره أن الشيء المستلب موروث مقدس من أبيه وجده فقال:


فإن الماء ماء أبي وجدي
وبئري ذو حفرت وذو طويت

وصرح بما أريد غصبه عليه فقال: هو ماء موروث عن الأسلاف وحمى معروف بي وبهم، سلمه الآباء لنا على مر الأيام، وبئري التي اغتصبت قد توليت استحداثها وحفرها وطيها.
وقوله (ذو حفرت) ذو لغة طائية في معنى الذي وقف عندها النحويون وعلماء اللغة دون سبر أغوار هذا النص المفعم بالرفض والخصوصية والمتفجر قهرا من الظلم والاستلاب، وهذا مما يقع على ثقافات التسلط والوصاية ولو كانت على مستوى فرض أقليم على أقليم، أو عرق على عرق، أو مذهب على مذهب، يقولون: هذا ذو قال ذلك، ورايت ذو قال ذلك، ومررت بذو قال ذلك، فيحتاج من الصلة إلى مثل ما يحتاج إليه الذي، ولم يدركوا أن ذو تقع في لغتهم على المذكر والمؤنث معا وذاك دلل على المساواة في منظومة لا تتجاوز قول العربي (فاقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي) ولهذا صلح أن يقول وبئري ذو حفرت. وقد اندثرت هذه اللغة الطائية لأنه لا صلة لها ولا قربى تحمي وشائجها في زمن توصف به تلك المرأة بأنها من حديد، وذلك الجزار بأنه رجل سلام !!
إن لدينا الآن من أسباب التشاؤم المحرم الذي لا علاقة له بالمرأة ولا الدار ولا الفرس ما يكفي لزلزلة نفوسنا المبتورة لأننا لم نعد نملك شيئا من ذلك يستحق التشاؤم، فالأمس مؤلم والغد مخيف والأيام فقدت طابعها فلا ليلة شبيهة بأختها؛ لأن البارحة استثنائية في حقائقها وأحلامها وما هو قادم أكثر خوفا وإحباطا ولا يمكن التنبؤ بما يخبئه الغد ايضا ما دامت الثعالب تصدرت للصياغة وفق منظومات المراوغة وفرض الوصايات والاستلاب بثقافاته ذات الصداع المزمن الذي يؤمن بان المحتضر لا يحق له أن يتنفس في محرابه المحرم حتى يتم إعلان النعي، وليستعد من حوله فقط لحفر قبره لأن كرامة الموتى.. العجلة في دفن أسرارهم!، والأسى كل الأسى في الأنف الذي سال دمه شاهدا على انحطاط الإنسان وحضارته في صورة لا تختلف عن ما كنا نسمعه من بعض الأنظمة التي ابتلي بها العرب بمقابرها الجماعية وجبر أهل الضحية على دفع ثمن الرصاصة التي قتلوا بها ابنهم الشاهد على كتابة القضايا الكبرى على ذلك الهامش الأحمر استعدادا للشطب والمحاولة مرات ومرات وهي بكل مقاييس الماضي والحاضر والمستقبل لا يمكن اختزالها في نشرة الاخبار أو مشهد في مسلسلات تحت ما يسمى بالسباق الفضائي وكأننا وحوش تلعق دماء جروحها بعدما أصيبت بداء الكلب نتيجة عضة من مغلوث مر ذات يوم على الأعراب ولا يشفى إلا بمص دم انسان كما كنا نسمع في أساطيرنا الشعبية، والذي نسيه المغلوثون أن الإنسان يشعر بحريته في ظل الإستبداد ويعرف قيمة وطنه في ظل الاحتلال والظروف ولذلك اعترف مثقف فرنسي شهد الاحتلال النازي لبلاده بأنه لم يكن حرا ذات يوم.. كما كان حرا خلال الاحتلال، حقا لم أدرك معنى تلك الأبيات التي سمعتها صغيرا أن الذي ضاع ذهبه سيذهب إلى سوق الذهب وربما يجد أثمن من ذهبه، وأن الذي خانه حبيبه سيمضي وقتا ثم ينساه كما ينسى الولد والده والوالد ولده بعد أن يواريه التراب لكن من ضيع وطنه فأين يجد وطنا لأن الآخرين محتفظون بترابهم، ولو كانت المعارك عليه لأدركوا حجم الكارثة، ولا زلت أعجب من أمم تسيء لتاريخها وحضارتها في فرض نظام طوارئ وحظر تجول لم يقتصر على مدينة باكية في ذنب هذا الكوكب، بل عمم على مدن تئن من الطارئين الذين يجوبون التضاريس بحثا عن الذهب، وربما يختلفون عن كل باحث أقعى على طرف نهر بلل مؤخرته بغرباله لأن ذهبهم أسود لا يحمل بريقا يثير شفقة الفقراء ويحتاج لعمليات تنقيب وآلات ورافعات ولابد أن تجري هذه في ظل هدوء ومزاج بعدما رجعوا لمبادىء تؤكد أن العالم ليس بحاجة لوزير خارجية يرشحه فخامة الرئيس يؤمن بالحلول الدبلوماسية ويقدم الحوار والشرعية الدولية بقدر حاجته لوزير مستعمرات على غرار وزارات المستعمرات البريطانية التي فرضت استعمارها على ثلاثة أرباع كوكبنا في الزمان الماضي حتى سلمت الراية الحمراء لإنسان لايختلف عنها وفق نظريات ميكافيلية تهتم بالنتجية مهما كان ثمنها ومهما كانت شخوصها أو أجندتها التي لن يطرأ على تغييرها سوى تعميق بعض الخطوط، أو إعادة ترتيب الأولويات في لعبة الشطرنج العالمية التي يلعب فيها الطرف الاول، ذلك الإنسان ولا يخرج حتى يمله الثواء ويمله الناس لأنهم يملكون شعورا أكبر من تلك الشجرة حينما ترسل ذبذبات تنبئ عن قشعريرة تسري من أغصانها حتى جذورها، إذا أحست بمنشار يقترب منها، فهي لا تستحق كل هذا الجلد كي تساقط ثمرها لهم، وأشد صياحا من ديك يطارده الصبيان فراراً في لعبة تنتهي بالموت لتأكله بعد نتف ريشه وطهيه بالماء المغلي نفساء طامعة في مضارب بعيدة، وأعظم يأسا من حيوان يطعنونه بالإبر كي يمنحهم مزيدا من الحليب، في حين يرى تضور صغاره أمامه جوعا، إنهم يعصرون الإنسان كي يمنحهم ويطلبون منه مزيداً من الهدوء في العاصفة التي أتت على كل شيء فدمرته ومضت والعبء قد ملأ الأرض وأصبح الإنسان كالجذور اليابسة لا يقوى على مقاومة جاذبية الانحناء إلا في كنف فلسفة الفأس والقدوم والحطاب والنار. بحجة أنها غير مثمرة كما قالت العرب، والمدهش أن العروق خضراء لا تستحق أن تلتهمها النيران إذ لا زالت تسعد باليد التي تمد لها الماء وتقشعر من صوت المنشار، فلماذا لا يدرك الطارئون الذين تحلقوا حولها ربما سعروا بمحلقها ونداه أن المقرور بجذوره أكثر تعبيرا من الفيلم الأمريكي (الجذور) والله من وراء القصد.
الإمارات العربية المتحدة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved