Friday 26th November,200411747العددالجمعة 14 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

تأملات في كتاب تأملات في كتاب
د. محمد بن سعد الشويعر

الإنسان في دنيانا يأخذ من مجريات الأمور في حياته وحياة مَن حوله العبرة، ومن تصرفات الأوضاع وتقلُّب الناس فيها العظة، فلا سرور يدوم، ولا غنى أو فقراً ثابت في قوم دون قوم، أو جاهاً تتوارثه أسرة دون أسرة، فما أضحكت إلاَّ وأبكت، ولا سرَّت الا وأحزنت؛ لأنَّ الله سبحانه يرفع فيها أقواماً ويضع آخرين لحكمة أرادها الله وموعظة يعتبر منها العقلاء وأهل الإيمان بالله، يقول سبحانه: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)، وبالشكر تدوم النِّعم.
والكتاب الذي بين أيدينا يبرز موضوعه، والمادَّة التي طرحتها المؤلفة في صفحاته من اسمه الذي جعلته: مَن دانت إليه الدنيا فرفعته ثم دالت عنه فوضعته.
أما المؤلفة فهي: حنان بنت عبد العزيز بن عثمان بن سيف. يقع هذا الكتاب مع فهارسه في 168 صفحة من القطع المتوسط المعتاد، وخرج في طبعته الأولى 1423هـ من مطابع العبيكان بالرياض.
وقد أشارت الكاتبة إلى أنها نسجت العنوان على عنوان كتاب للقفطي، صاحب إنباه الرُّواة، من باب الأمانة العلمية، ولا تدري حقيقة إن كان هذا الكتاب موجوداً أو مفقوداً أو مطبوعاً أم باقياً في ذمة التاريخ. ولعل اهتمامها بهذا الجانب يدفعها للمواصلة بإفادة القراء ليكون في جهدها تعويض عن المفقود أو تأكيد لنوع من المعرفة التي يحتاجها القارئ ويستفيد منها عظة واعتباراً.
لكن الذي ساقها للتأليف كما نوَّهت عن ذلك في المقدمة، التي سبقها الإهداء والعرفان بالفضل لوالدها في كلمات موجزة، ما بان لها من التاريخ وسِيَر الناس التي تجمع بين المتضادَّات؛ إذ فيه حقيقة وخرافة، ومتعة وسآمة، وتطويل مملٌّ وإيجاز مخلٌّ؛ لأنها رأت في بعض التراجم أموراً تُعْجب؛ كالتّدرج علواً إلى درجة العظمة، ثم النزول انحداراً للذلِّ والهوان كما جاء في مقدِّمتها.
ولا شك أن في هذا تنبيهاً للعاقل بألاَّ يغترَّ بالدنيا وزخرفها، وإن ضحكت وأضحكت وغرَّه سرورها، فإن عليه أن يؤدي حق ما أنعم الله عليه، والتواضع لله عرفاناً بفضله عليه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7).
وليعلم الإنسان أن ما يمرُّ به فإنما هو ابتلاء واختبار؛ لينظر الله منه ماذا يعمل نحو خلق الله؛ شكراً لله وسعياً في مصالح عباده، أو غروراً بما أُعطي ليعلو على عباد الله ظلماً أو نكراناً، كما قال سبحانه عن حالة قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص: 78)؛ لأن للنقل أمانة بأداء حق الله فيه يجب الاهتمام به.
أوردت المؤلفة نماذج لرجال ونساء ارتقوا في الوضع الاجتماعي وفرة وجاهاً، أو مكانة ومالاً، ثم تضاءل ما عندهم، فانحدروا من أعلى السلم إلى الحضيض، لتكون الحالتان المتضادَّتان عبرة لمن يعتبر، وموعظة لمَن في قلبه إحساس بعدم الاغترار والتكبر والاتِّعاظ بأحوال الدنيا، وأنَّ على العاقل أن يؤدي ما يزين المكانة التي ارتفع إليها تواضعاً وأداءً لضريبة هذه المكانة، وذلك بالسعي في مصالح عباد الله، متيقناً أنه كالأجير عليه دور الأداء لأمانة الله والإخلاص في العمل المناط به والسير وفق شرع الله {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: 79).
وقد وزَّعت المؤلفة كتابها إلى فئات سبع، ولعلها في هذا على سبيل التمثيل لا الاستقصاء؛ لأن صفحات التاريخ ومجريات الأمور في السِّير ملأى بالوقائع المماثلة لما تصدَّت له قديماً وحديثاً، سواء للأفراد أو للجماعات رجالاً ونساء، أو للأمم التي بان في القرآن والسنة نماذج منها من باب الاعتبار والتذكير {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} (الروم: 9)؛ لما في قصصهم من الدروس المنبِّهة للقلوب المؤمنة بربها، المستجيبة لشرعه سبحانه.
الفئة الأولى: للملوك والخلفاء والأمراء. وقد أوردت منهم 23 فرداً، منهم امرأة واحدة، هي شجرة الدُّرِّ.
الفئة الثانية: الوزراء. أوردت منهم 14 فرداً، مع أنهم أكثر عرضة للنكبات، إلاَّ أنها لم تدخل في حكمهم الكتَّاب والقوَّاد، والجميع حسَّادهم كثيرون، وهفواتهم لا تحصى وتحمل تصرفاتهم على محامل شتَّى؛ مما يجعل الزيادات في سِيَرهم تتكاثر، وهذا مما يوغر الصدور عليهم، وكل ذي نعمة محسود.
الفئة الثالثة: العلماء. ولم تذكر إلاَّ اثنين فقط. والفئة الرابعة: الأدباء. أوردت منهم 5 أفراد فقط، ولم تُشِرْ لابن المقفع لشهرته، ولا لمن تتبَّعهم المهديُّ العباسي باسم حرب الزندقة.
والفئة الخامسة: الشعراء الذين أوردت منهم 9 أفراد، منهم امرأة واحدة، هي أم قرفة، لكنها لم تذكر من حياتها وسيرتها ما يتناسب مع العنوان، فهي بقيت في عزِّها الدنيويِّ حتى قُتلت، مع أن زوجة أبى لهب عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم ممن ذكر الله ذلَّها الأبديَّ في سورة باسم زوجها، وهي أيضاً شاعرة وقالت أبياتاً تهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحرِّض عليه، ولم تذكرها الكاتبة.
أما الفئة السادسة فعن المغنين. ولم تذكر منهم إلا واحداً، مع أن أبا الفرج الأصفهاني في أغانيه ذكر منهم مجموعة؛ نساءً ورجالاً، منهم جارية آخر خليفة عباسيٍّ المستعصم، فقد أصابها سهم وهي تغني له، فهي وهو لم يذكرا، وموتهما مرتبط بسقوط الدولة العباسية عام 656هـ، بل نكبة الإسلام الكبرى وحضارته.
أما الفئة السابعة فعن الأطباء. وذكرت واحداً فقط، وهو المثنى الأرموي الذي اعتبرت وفاته سنة 393هـ، فإن هذا غير صحيح بقرينتين ذكرتهما، هما: الأولى خدمته للمستعصم آخر خليفة عباسي، الثانية أنه غنَّى لهولاكو وارتفعت منزلته عنده، ولذا فإن وفاته بعد عام 659هـ، ولعل هذا من السَّهو.
وعلى العموم فالكتاب جيِّد ومهم؛ لما فيه من العبر والمواقف التي تشدُّ الإنسان وتجعله يتمعن في تقلبات الناس في الحياة الدنيا، وأن ما يتفوَّه به الشعراء والعلماء والأدباء من تغيُّر أحوال الناس من ارتقاء إلى ضعة، ومن غنى فاحش إلى فقر مدقع، ومن سرور إلى حزن وكدر، وغير ذلك يصوِّر جانباً مما شاهدوه وعايشوه.
كل هذا يرتبط بمثل ما تحدَّثت عنه المؤلفة، وهي التي رصدت 44 مصدراً، أغلبها في التراجم والسِّير؛ مما يبرهن على اتساع الحصيلة العلمية عندها، وإحاطتها بجوانب في حياة سِيَر أولئك الأعلام ذكوراً وإناثاً، بل نوَّهت عن ذلك مع كل ترجمة، مع أنها آثرت الإيجاز في الرصد. ويجدر بها أن تهتم بزيادة الوقائع سروراً أو حزناً لكل فرد أولاً، وأن تُولي العناية لأناس حازوا شهرة كبيرة ومواقف في علوِّ المنزلة - مهما كانت المكانة - ثم نزلوا إلى الحضيض بعدما نكبوا، فكان في سِيَرهم عبرة عند الناس كموقف من المواقف المؤثرة، أمثال: الوليد بن يزيد الأموي من الخلفاء، وابن الزيات من الوزراء، وبشار بن برد من الشعراء، وابن مُقْلَة من الكتَّاب، ومثله باصهي في صبيا في العصر الحاضر، وغيرهم كثير.
ولعل المؤلفة مع جودة ما قدَّمت وبذلت من جهد تتحف القراء بتوسيع هذه الحصيلة لتكون سابقة غيرها في مثل هذا الموضوع الذي طرقته، والفضل للسابق كما قال الجاحظ بسبقه، وللأحق بفضل الإجادة والتحسين، وهو كتاب جيِّد جدير بالقراءة.
من أقوال الحكماء
جاء في كتاب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي أن عمر بن عبد العزيز قال: أحبُّ الأمور إلى الله ثلاثة: العفو عند القدرة، والقصد في الجِدَةِ، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلاَّ رفق الله به يوم القيامة.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك: إنك أعزّ ما تكون أحوج ما تكون إلى الله. فإذا تعزَّزت بالله فاعْفُ؛ فإنك به تعزُّ، وإليه ترجع. وقال الفضيل بن عياض: احتمل لأخيك إلى سبعين زلة. قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟! قال: لأن الأخ الذي آخيته في الله ليس أن يزلَّ سبعين زلَّة.
أما لقمان الحكيم فقد قال لابنه: أيْ بُني، أيُّ شيء أقل؟ وأيُّ شيء أكثر؟ وأيُّ شيء أحلى؟ وأيُّ شيء أبرد؟ وأيُّ شيء آنَس؟ وأيُّ شيء أوحش؟ وأيُّ شيء أقرب؟ وأيُّ شيء أبعد؟
فقال: أما أيُّ شيء أقل فاليقين، وأما أيُّ شيء أكثر فالشكُّ، وأما أيُّ شيء أحلى فروح الله بين العباد متحابين بها، وأما أيُّ شيء أبرد فعفو الله عن عباده، وعفو الناس بعضهم عن بعض، وأيُّ شيء آنس فحبيبك إذا أغلق عليك وعليه الباب، وأيُّ شيء أوحش جسد إذا مات، فليس شيء أوحش منه، وأيُّ شيء أقرب فالآخرة من الدنيا، وأيُّ شيء أبعد فالدنيا من الآخرة.
كما قال لقمان يوماً لابنه: كذب مَن قال: إن الشرَّ يطفئ الشرَّ، فإن كان صادقاً فليوقد ناراً إلى جنب نار، فلينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى؟! وإلاَّ فإن الخير يطفئ الشرَّ كما يطفئ الماء النار.
أما إسماعيل بن عبيد الهاجريُّ فإنه يقول لبنيه: يا بنيَّ، أكرموا مَن أكرمكم وإن كان عبداً حبشياً، وأهينوا مَن أهانكم وإن كان رجلاً قرشياً.
وقال أبو حاتم: العاقل يحسن عند الجفوة، ويغضي عن المجازاة عليها بمثلها. وما أقبح قدرة اللئيم إذا قدر. ومن أساء سمتاً أساء إجابة، ومن أتى المكروه إلى أحد فبنفسه بدأ؛ لأن الشرور تبدو صغاراً ثم تعود كباراً. (ص 167 - 170).


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved