لا أعرف كيف أخطها من كلمات من هول الفاجعة التي تلقيتها مساء يوم السبت الموافق 23-9-1425هـ لقد كانت صدمة وخسارة علينا أسرة آل الدريس وعلى سلك التربية والتعليم أيضا في لحظة قصيرة يأتي ملك الموت بأمر من الله سبحانه وتعالى ليأخذ أبا وعما عزيزا علينا ونحن ننتظر ورقتنا فمن التالي يا ترى؟
عسى أن يكون ذلك عظة وعبرة لنا وللجميع للاستعداد للآخرة للعمل بصمت كما كان يفعل المرحوم.
يقول أبوحيان التوحيدي: الكلام عن الكلام صعب لكن كيف يكون الكلام بعد الموت؟ ماذا يمكن أن نقول حين تتساقط الأوراق حولنا وتنطفئ الشموع؟
ماذا نقول حين يتهاوى الجبل الشامخ أمامنا وتنسلت العيون بالدموع؟ بمن سنستنير حين تهب الريح الصرصر لتطفئ فوانيس الليل؟ وعلى من سنتكئ حين تصرعنا الأيام؟
آه.. كم هي مريرة الأسئلة وكم أمرّ الإجابة عنها في لحظة انتهى كل شيء كالسراب بكلمة واحدة.. (مات).
آه.. وما أقساها من كلمة مرت وشتتت ورملت ويتمت ولم تبال بحجم ما تخلفه تلك الكلمة..
هذه الشخصية التي أتناولها بقلب يعتصر ألماً لفراقها لأنها نادراً ما نجدها ضمن طيات شرائح المجتمع في هذا الوقت العصيب فهو موسوعة علمية ودينية وثقافية دقيقة بأحداثها وتواريخها فهو بحر من العلم وينبوع نستقي منه دائما لقد غيب الموت فجأة ذلك الينبوع وهذا البحر المليء بالعلم والثقافة.. غيب الموت جبلاً شامخاً وبنياناً عالياً رجلا تصغر كلمة الرجولة أمامه ومثقفا تحييه الثقافة وعالما أجله الله قبل أن يجله العلم حيث قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، إنسانا تجتمع بداخله كل الانسانية
د.ابراهيم الدريس لم يكن مجرد رجل عادي بل نادراً ما نجده ضمن شرائح المجتمع المختلفة.
كان دائما الرجل المبادر لفعل الخير كالبحر الذي لا يجف بدءاً من عائلة الدريس ووصولاً الى كل من حوله ومن عرفه رجل لم يقصده طالب وعاد خائباً.. رجل حمل هموم أهله على كتفه ولم يشكُ فلم تغره الحياة ولا المناصب ولا الثروة لينشئ من حوله الاسوار فكان نعم الزوج والأب ونعم العم والمسؤول
كان يقف على شؤون أهله بنفسه فلم ترق له أهزوجة الدم فرغم كل ما يملكه كان ينتشي بتوصيل أبنائه الى مدارسهم والخروج معهم للتسوق...
كان كالفلاح الذي لا يريد أن تكبر اشجاره بعيداً عن عينيه.. كان ينتشي بتعبه من أجلهم ليراهم يثمرون
كان صديقا لهم وأكثر من أب، عود أهله على أن يكون القريب منهم أكثر من أنفسهم اليهم فكان لا يتوانى عن قيادة مسيرتهم شياباً وشباباً ليجعلهم مثالا يحتذى به في فعل الخير وتقويمهم للأفضل مسخراً علمه وثقافته لخدمة أهله ووطنه.فالعم ابراهيم الدريس حتى وان تناسته ذاكرة الانسان المجبولة على النسيان. فصعب جداً ان تنساه صفحات التاريخ لأنه رجل لم يسع لتسجيل التاريخ فسجله التاريخ كعلم بارز في ميدانه.
صعب على أروقة العلم أن تنساه وصعب أيضا أن تزال بصماته من على كل من حوله والأصعب رحيله عن أهله وعنا، هو أب لكل عائلة الدريس فلا فرق بين ابن الأخ وابن الأخت والابن عنده، لا تقر عينه إلا حين يتنسم أخبار كل العائلة ويطمئن عليهم، لقد امتدت يده الطيبة بالعون للجميع ولي أيضا، لم يدخر جهداً في إنارتنا سواء بعلمه أو وقته.
قد أكون جاحدة حين أقر بأن ما قدمه لي كابنة أخ، فقد كان لي الأب والعم والأخ الذي لا تضيق رحابة صدره من شكاواها ولا يتوانى عن فعل المستحيل لجبر خاطرها وتقويم انكسارها فكان دائما يوصينا بأن يكون في الصورة معنا بشكل متواصل بكل ما أوتي من جهد
كلمة حق أقرها بأنه كان لي بمثابة جبل قوي وسند أتكئ عليه في جميع المواقف ونبراسا للعلم وتشهد على ذلك كل ورقة أتصفحها من صفحات حياتي بالمواقف المشرفة التي طالما كنت أفتخر بها وسط طبقات المجتمع سواء على مستوى العمل أو على المستوى العائلة.
رحمك الله يا عماه يا من كنت أقرب من نفسي إليَّ ووعداً مني بأن تظل كذلك بالدعاء لك فإن غيبتك يد المنون والحمد لله فلن تكون أفعالك ومآثرك غائبة
ان القلب ليحزن والعين لتدمع وإنا لفراقك يا عماه لمحزونون رحمك الله - إن شاء الله - في جنات الخلد راضيا مرضيا ولن ننساك أبداً ما حيينا ولا أنسى أن أشكر بالنيابة عني وعن أسرة الدريس إشادة معالي وزير التربية والتعليم محمد الرشيد ومواقفه معه وكل من ساهم في رثاء العم الغالي د. إبراهيم الدريس.
|