لقد خشي الفرنسيون على اندثار بعض مفردات لغتهم وذلك قبل حوالي قرنين من الزمن، لذا تم إصدار قانون صارم ينص على ضرورة استخدام الأصلية من قبل الطلبة وعدم التلفظ بأي مفردات ليست من صميم اللغة ومن لم يتقيد بهذا القانون يتم طرده من الجامعة. إنهم حقا أدركوا مسؤوليتهم تجاه لغتهم فحافظوا عليها وجني ثمار تلك المحافظة الفرنسيون أنفسهم.
فبقت اللغة الفرنسية محافظة على هويتها في داخل فرنسا أو في المستعمرات القديمة أو في ما يعرف حاليا بدول الكومنولث الفرنسية. إن الفرنسيين عندما أولوا اهتماماً كبيراً للغتهم لم يكن ذلك الاهتمام عبثياً بل نبع من تحمل المسؤولية وهذا ما جعل اللغة الفرنسية حاضرة ومنتشرة بقوة في أنحاء العالم. إن اللغات الأربع ذوات الانتشار العالمي الواسع وهي العربية والانجليزية والاسبانية والفرنسية امتلكت كل منها رقعة جغرافية كبيرة من ناحية التحدث البشري في أي من تلك اللغات مع التأكيد أن اللغة الانجليزية تتصدر المرتبة الأولى بفارق عن اللغات الثلاث الأخرى كانتشار عالمي، فاللغات الثلاث الأخرى ما عدا العربية استحوذت على مقومات انتشار اللغة واعتمدت كل لغة عليها فما كانت تلك المقومات إلا مقومات مادية بحتة فقد افتقدت اللغات الثلاث مقوما عظيما لم يكن الا لدى اللغة العربية وهو المقوم العقائدي فهذا المقوم أقوى وأمضى من كل المقومات كون أنه يمثل الاستمرارية والخلود وما يدلل على هذا أن اللغة العربية على الرغم من سقوط الانظمة الإسلامية القديمة والتقسيمات التي حدثت للشعوب خصوصا غير العربية منها وابتعاد تلك الشعوب عن العرب لفترات طويلة من الزمن قد تصل الى قرون عندها غاب أي نوع من الاتصال مع العرب إلا ان العربية ظلت مرتبطة ارتباطا جذريا بالحالة العقائدية فلم يفلح من حاول قتل اللغة على تحقيق مبتغاه فقد كان التوغل العقائدي أكبر من أن يقتل وبما أن اللغة ملازمة له تمكنت من مواصلة بقائها حتى إن لم يكن بالمستوى نفسه الذي نشأت عليه لكنها لم تمت.
فنحن العرب في الحقيقة لم نخدم لغتنا في كل عصور التاريخ فقد كان انتشارها منوطا بانتشار الإسلام وبالتالي اقتصر وجود اللغة العربية على وجود الاسلام فالأرض التي لم تطأها القدم الإسلامية خلت تماما من وجودها وعليه فاننا بحاجة الى انشاء مشاريع خاصة بهذا المجال كمؤسسات او لجان تعنى بتقوية اللغة على الأقل في العالم الإسلامي لأنني لاحظت أن كثيرا من المسلمين بإمكانهم قراءة القرآن لكن من دون فهم لمعانيه مما يؤكد ضعف اللغة العربية في ديارهم فلا وجود لاستخدام مفرداتها إلا في الأمور التي تتعلق بالعبادة وهذا ما يجعل حضورها في الحياة العامة ضعيفا جداً.
إن امتلاك العرب جزءا كبيرا من طاقة العالم وخصوصاً في منطقة الخليج وتوافد الجاليات الإسلامية وغير الإسلامية على هذه المنطقة ساهما مساهمة فاعلة في تهيئة الفرصة لبلوغ المنال ولكن بني جلدتنا لم يستغلوا ما أتيح لهم او ربما لم يخطر على بالهم هذا الامر قط، وللأسف.. وللأسف.. وللأسف.. ان من الوفود غير العربية من يقيمون في منطقة الخليج لفترات طويلة قد تجتاز العقد او العقدين من الزمن وإذا ما حاولت ان تختبرهم في اللغة فإنك سوف تجد أن 95% منهم قدرتهم على التحدث (صفر) كون أن استخدامهم للالفاظ والمفردات العربية لا يقوم على تكسير الكلام بل على تهميشه فلا يجب ان نظن أنهم يتحدثون بطريقة تكسير الكلام فطريقتهم تهشيم ليس بعده تهشيم.
ان السبب في صنع هذه الحالة السلبية نحن أهل الخليج والمسؤولية تلقى على أعناقنا فوالله لو قومنا أنفسنا وتحدثنا معهم كما نتحدث مع بعضنا لرجع كل منهم الى دياره ولغته العربية لا تنقص عن 90% خصوصاً الذين يعيشون في الخليج لفترة تصل الى 17 عاماً أو أكثر.
فالدافع الذي جعلني أحمِّل أهل الخليج تبعات هذه السلبية هو ملاحظتي للافراد الذين يعملون مع اخواننا العرب طبعا في الخليج فقد اعتادوا التحدث مع اولئك الأجانب كما يتحدث العربي مع العربي حتى تأثروا تدريجيا وأصبحوا افضل بكثير من غيرهم بل ان بعضهم قد تتصور أنه عربي أما الشق الذي اعتاد على تلقي التهشيم من قبل الخليجيين فبقي على حالته كما لو أنه لم يأتِ لدولة عربية في حياته.
لو أن أجدادنا العرب القدماء فعلوا فعلتنا الآنية خلال الفتوحات وعند تعليم الآخر الإسلام واللغة لما أنتجت الحضارة العربية الإسلامية الكم الهائل من العلماء غير العرب.
فالمشكلة لم تكن أبعادها السلبية تدور حول الجاليات فقط إنما نحن في مجتمعنا بدأنا نمتص طريقة تهشيم الكثير من المفردات من قبل أناس لم يعرفوا لغة في حياتهم غير اللغة العربية، فعلينا أن نعي حجم هذا البلاء عسى أن نعالجه من تلقاء وعينا الذاتي، والذي أوجد في نفسي التعجب أن المسلم غير العربي كان من الاولى أن يكون لديه خلفية عن اللغة العربية لكن هذا لم يكن، فمستوى المسلم وغير المسلم في اللغة واحد، إنهم يتلقون الألفاظ والكلمات مهشمة من جانبنا فمن الطبيعي ان يتماشوا والوضع السائد. توجد احدى العاملات في منزل امرأة مسنة فالعاملة لا تختلط إلا بتلك العجوز كونهما تعيشان بمفرديهما داخل الدار، فالمرأة تتحدث مع العاملة كحديثها مع أي امرأة عربية أخرى فبعد سنتين فقط كانت لغة العاملة ليست جيدة بل جيدة جداً فالله درك أيتها العجوز.
إذن المعضلة التي تقف في وجههم أقول بكل حرقة نحن الذين صنعناها بأيدينا فالشعوب كانت تذهب لغيرها أمثال الإنجليز والاسبان وغيرهم من الأوروبيين يذهبون لنشر لغتهم وثقافتهم ونحن تأتينا الشعوب فنحجب لغتنا وثقافتنا عنها ويا ليتنا نحذو حذو اخوتنا في الدول العربية فجميع شعوب هذه الدول يتحدثون مع الأجانب بلهجتهم العامية ولا يكسرون في الحديث معهم اطلاقا فالذي عاش في احدى تلك الدول من الأجانب لمدة سنة مثلا تكون لغته العربية أفضل من الذي عاش في الخليج لمدة عشر سنوات أو أكثر، وهذا هو الواقع!!
إنني عندما ذكرت ما فعله الفرنسيون كان من أجل أن نتنبه بأن غيرنا لم يترك أي مجال يؤثر في لغته حتى لو كان التأثير بسيطا. فلو كانت هذه الجاليات في أي دولة في العالم هل سيكون حالهم كما هو عليه عندنا؟
|