إيماناً بقضاء الله وقدره
وتسليماً بمشيئته وأمره
واحتساباً لثواب الصبر وأجره
وتصديقاً بمحكم قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، ولكل أجل كتاب.
ما كنت أول والد فقد ولده، ولن أكون آخرهم، فالموت حق عرفناه، ونعرفه كل يوم وكل حين، وما كنت كاتباً ولا أديباً ولا مفكراً، ولكني وجدت في معرفة الموت عن قرب، وفي هذا الموقف العصيب، سانحة لا تعوض للوقوف مع النفس والتأمل فيها وفيما حولها، من خلال هذه الخواطر، التي ما كان لي من فضل فيها سوى تقييدها على الورق، إذ هي قد صدرت في صدق وعفوية، فكتبت نفسها ولم أكتبها.
إن الفقد أليم، والمصاب عظيم، ولكننا راضون بما قدر رب العالمين، لا نفزع من الموت ولا نجزع، فهو حق عرفناه، وصدق عايشناه، فكل منا فقد أباً أو أخاً أو ابناً أو قريباً أو صديقاً، وكنا عند كل فقد نتعزى ونطلب السلوان فيمن الله علينا بالنسيان، ولذلك فأنا في هذا الموقف مثلكم جميعاً، أب مكلوم بفقد فلذة كبده، وقد كنت أسمع العرب تقول: أبناؤنا أكبادنا تمشي على الأرض، وكنت أسمعها تقول: إذا فقد الرجل ابنه: انفطر كبده على ولده، فعرفت الآن صدق هذا القول، عندما أدركت معنى أن يفقد الأب فلذة كبده حياً يمشي على الأرض، وعرفت أن الموت نقاد يختار الجياد.
وإني إذ أصدر عن هذه الخواطر، فهي ليست تبرماً بقدر، حاشى، ولا سخطاً على مشيئته، هيهات، بل نفثة حزن شفيق على ابن صالح سلك طريقه إلى ملاقاة ربه، شاب كان موعده مع الموت في الخامسة والعشرين من عمره، اختطفه المنون ثمرة ناضجة بعد أن منَّ الله عليه بصيام أفضل شهوره وقيامه.
شاب قضى عمره طلباً للعلم، وحقق ما تمناه، فأصبح طبيباً في مهنة يبتغي بإحسانها ثواب الله وأجره، نشأ مستعصماً بدينه بلا إفراط ولا تفريط، امتزج طلبه العلم بحسن الخلق وفضيلة التواضع ومساعدة الآخرين وبر الوالدين وصلة الرحم، وكثير من فضائل الخصال، التي يصعب على والد تعدادها عن ابنه، فشهادة الوالد في ولده هي دوماً مجروحة، ولكني أتركها شهادة لكم، فأنتم شهداء الله على الأرض.
كنت أسمع وأقرأ أن الله ينزل من الصبر والثبات على عبده بقدر مصيبته وعظمها، وقد عشت هذه الحقيقة وأنا أسوي الحصى فوق قبرك يا مترك، أحسست حينها بسكينة عظيمة وثبات جليل وصبر لا حدود له، فطافت علي في تلك اللحظات العصيبة صورتك وأنت طفل ونحن نفرح بمولدك، وأنت ظل لوالدتك تسعى لنيل رضاها، وأنت شاب متفوق تطلب ليس التفوق فقط، بل مرضاة الله وثوابه، من خلال ما تحققه من نجاح وتفوق، في هذا الموقف كثرت على نفسي التفسيرات والتأويلات في سر الموت والحياة، ومن هنا واتتني أطياف من هذه الخواطر أردت أن أسطرها في شكل رسائل لنفسي أولاً ولمن حولي ثانياً، أملاً أن تكون معينة في تثبيت الإيمان، وتحقيق الرضا بقناعة أن الموت حق، والحياة زائلة والآخرة هي الباقية.
فلنبدأ بالرسالة الأولى أوجهها إلى نفسي..
ابن فرحت بمولده وافتخرت واعتززت بتخرجه، وكنت أعده ذخراً لمقبل الأيام، وفي قمة صعوده الحياة، اخترمه الموت، فكان في لحظة بين يدي ربه، وأرجو له القبول، إن الكلمات قد تبدو عاجزة عن أن تستوعب هذا المصاب الجلل، ولكن العزاء أنه كان ابناً صالحاً وباراً، بمقاييس البشر على الأقل، اعتدال في الدين، سعي في طاعة الله، تواضع للعباد، قيام بحق الرحم، بر بالوالدين، طلب للعلم، ابتسامة دائمة، احترام للكبير والصغير، طموح في مرضاة الله، يشهد بذلك تلك الجموع التي شيعته، بعضهم ممن أعرف، وأكثرهم ممن لا أعرف، جاؤوا محزونين معزين، شاهدين على ما كان عليه الفتى من دين وعلم وخلق، سمعت ذلك ممن أعرف ولا أعرف، وكان أكثر من واسوني هم من معارفه، جمعته بهم حسن الصلات، وطيبات الأعمال، فإذا أحب الله عبداً حبب فيه خلقه.
ابني العزيز: لو غيبك الموت عني، فأنا لست فزعاً ولا جزعاً، لأنك شهيد يزف إلى دار هي الأبقى والأصلح، وإنك قادم على رب كريم رحيم، وأنت ملاقيه بصحائف بيضاء، نسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتك، ثقة به، وإيماناً بفضله ورحمته، حين اختارك إلى جواره وأنت في مقتبل عمرك، لا عاقاً ولا فاشلاً ولا متكبراً ولا زنديقاً، فالحمد لله، من قبل ومن بعد، وأبشرك أننا صابرون محتسبون راضون شاكرون، فهذه موعظة لمن يتعظ، فإذا اجتمع الصبر والرضا والثناء والحمد، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
يا بني: كانت في حياتك لي عظات، وأنت اليوم أوعظ منك حياً، فقد أثلج صدري وخفف لوعتي ما سمعته عنك في العزاء، من مدرسيك وزملائك في الجامعة والمهن الطبية وأصدقائك ومرضاك، وغيرهم كثير، وأحمد الله أن اختارك لملاقاته بعد انقضاء أفضل شهر عباداتك، وكنت فيه صواماً قواماً ذاكراً داعياً متصدقاً، فنلت فضل طاعته سبحانه، وبر والديك، والله نسأل أن يجعل منك لنا شافعاً، ولغيرنا موعظة وعبرة، في رحلة الحياة والموت.
الرسالة الثانية إلى والدتك..
لا غرو أن فراقك صعب عليها، كما صعب علينا، بل أكثر، فقد صدق المعصوم حين أوصى سائله حين سأله عن أحق الناس بحسن صحابته: أمك ثم أمك ثم أمك، ولكنها يا بني - كالعهد بها - صامدة صابرة محتسبة، عينها تدمع وقلبها يحزن، ليس خوفاً عليك فيما أنت مقدم عليه، ولكن افتقاداً لك، وإنها لن تراك كل صباح ومساء تدخل عليها، كالعهد بك، تطلب مرضاتها ومعافاتها.
كانت أمك تصبر معزيها، في إيمان وتسليم عظيمين، بقولها: إن من عرف الله في الرخاء عرفه الله في الضراء، كانت تعزيهم قبل أن يعزوها، بل تحثهم على الصبر قبل أن يطلبوا منها أن تستعصم به.
فلها وللأمهات مثلها الصبر والاحتساب في فقدان فلذات الأكباد، إذ، بعد الله، لهن الفضل في تربية الأبناء، وتنشئتهم، فلولاها لما كنت أنت (الدكتور مترك)، الذي شهد له الناس بكل فضل وكريم من الصفات والأفعال، فأنت، وإن حملت اسمي، إلا أن الفضل لوالدتك التي سهرت ورعت ووجهت وأعدت، إذ لو غلبتها العاطفة وضعفت في تربيتها لما كنت أنت ما كنته، ولكنها رعت الله في الولد والعرض والمال، فكنت أنت ثمرة مباركة لها، وقرة عين في حياتها، فنلت رضاها بعد الله، والله أسأل، ولكل أم مثلها، أن يعينها في حمل أمانتها، فأمك يا مترك ما فتئت تظلل عليك، تحمل همك وأنت طفل، وأمك وأنت طبيب، ولم يدر بخلدها أنك كنت ثمرة يتهيأ الموت لقطفها، وعندما أتاك اليقين كانت خير الأمهات، صبراً واحتساباً وإيماناً ورضا بما قدره الله.
يا بني إن أمك هي أمك التي عرفت: اهتماماً بأمرك وحرصاً عليك بعد موتك، كما كانت في حياتك، ليس فقط بالدعاء وطلب المغفرة لك، بل إنها لم تدخر لنفسها بعد موتك شيئاً سوى الله، آملة أن يصلك ثواب ذلك كله صدقة جارية تكون في ميزان حسناتك، وأنت بين يدي رب غفور رحيم.
إنها يا بني أمك التي عرفت في الحياة وفي الممات، وأرجو أن تعذرني إذ لا أستطيع أن أبوح لك سرها بعد موتك، ولكنه، بإذن الله خير كثير، وفضل عظيم، سيصلك وأنت ترفل في جنات النعيم.
إن أمك يا بني، ولا أزكي على الله أحداً، امرأة عظيمة أدركت مسؤوليتها وحملتها في صدق وجدارة وقوة، فطبقت القول بالعمل، وإنها لأنموذج لغيرها من الأمهات في تنشئة الشباب المسلم الملتزم النافع لدينه ثم وطنه ونفسه، أنا لا أحدثك عنها ولا عن فضلها عليك، بعد الله، فذلك كله أنت أعرف به مني. فلا يكفيها شكر ولا عرفان، بل هو عند الله حسن الثواب والجزاء.
الرسالة الثالثة.. أبنائي وبناتي..
أنتم لم تفقدوا أخاً، لأن ذكراه التي خلدتها أعماله ستظل باقية بينكم، فلكم في نهجه خير نبراس، وإن كان لكم في مترك عظة وعبرة وقدوة ومثال، فاطلبوا العلم مثله، واجتهدوا في صالح الأعمال مثل اجتهاده لتنالوا رضا الله أولاً، والخلق ثانياً، لأن ما حظي به مترك كان بأعماله وأخلاقه وحسن طيبته ومعشره، كونوا فيه خير خلف لخير سلف، واستعدوا ليوم هو آت كما استعد هو له، واحتذوا أعماله وأفعاله، وأوصيكم كما كانت وصيته لكم: أمكم ثم أمكن ثم أمكم ثم صلة الأرحام، وإني لآمل أن أجد فيكم جميعاً ما يجعل متركاً حياً بيننا، من خلال أعمالكم وأفعالكم.
الرسالة الرابعة إلى زملاء الفقيد..
أيها الأبناء الأعزاء زملاء الابن الحبيب، لقد كان صادقاً وموفقاً في حسن اختياركم وفي زمالتكم، فاختيار المرء بعض من عقله، فقد شاهدتكم بقلبي، قبل بصري، يوم تشييعه، وكل منكم يفديه بنفسه، لو كان الموت يفتدى، وسمعت، كما سمع غيري، شهادتكم فيه، فأنتم شهداء الله على الأرض. فخففتم المصاب، وأثلجتم الصدر، ورفعتم الرأس، وكنتم خير مثال للشباب المسلم الملتزم.
إن ما شهدته من زملائك، هؤلاء الشباب الخيرين، ليبعث على الثقة والطمأنينة، بل إلى الدعوة لأن يكون كل شبابنا مثلهم، إذ لو كان شباب أمتنا مثل هؤلاء الفتية فإننا لعلى خير عظيم.
فيا ليت كل شبابنا يحتذي حذوكم، فقد كنتم نعم المواسون والمعزون، بل المستقبلون العزاء بدلاً مني، وكان في ذلك عزائي ومواساتي، فأنتم نعم الرجال، فبارك الله فيكم، ونفع بكم، وأتم الخير على يديكم.. خير مثال للشباب والأبناء الذين صدق فيهم القول: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، تطلبون العلم وتعلمون، وعند المصائب تعزون وتواسون، فأين منكم شباب آخرون ليس العلم من همهم، ولا صالح الأعمال في شرعتهم؟ أليست هذه الأعمال الخالصة لله هي من الطاعات؟ أليس طلب العلم من الجهاد؟ أليس الصبر على جهاد النفس من القربات؟
إننا بالغرب مبهورون، ونتسابق للأخذ مما لديه، وأخشى أن ما نسعى إليه لدى الغرب هو ما يحاول الغرب أن يتخلص منه ويتجاوزه، وهو أمر بدءاً لا يصلح لمجتمعنا، لا ديناً ولا عرفاً ولا أخلاقاً، إن علينا أن نأخذ من الغرب ما زادهم علماً ورفعة وتقدماً وحضارة، لا ما أوردهم موارد التردي والهلاك، وأخشى أننا لا نزال نعيش على صدى تراثنا المجيد، على ماضينا في الأندلس، وفتوحات صلاح الدين، بينما لم نسأل أنفسنا ماذا أحدثنا نحن بعدهم من أمجاد؟ فإن كان السابقون في أمتنا هم الأفضل، أليس جديراً بنا أن لا نكون الأسوأ، وأن نرتفع لنصبح بقدر هاماتهم؟
فأبشروا فأنتم قدوة شباب المسلمين، ولتستبشر أمتنا بأمثالكم، الذين سيعمرون الأرض صدقاً وعملاً وصلاحاً وعلماً، وكل ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء، فلننظر إلى من حولنا ممن ركبوا طبقاً عن طبق أين وصل بهم العلم، وأين وصلتهم أنتم، أخشى أن يكون الذي نراه من أعمال باسم الإسلام، الإسلام منها براء، فإزهاق الأرواح الآمنة ليس جهاداً، ولا من قيم الإسلام وتعالميه، فالجهاد هو في العلم وإعمار الأرض، فأرجو أن يقف كل منا لحظة يحاسب نفسه: وقته فيمَ أمضاه، وجهده أين وضعه، وماله كيف أنفقه، فكل منا خير محاسب لنفسه، فليحاسبها قبل أن تحاسب، ولنكن بكم أمة من الأقوياء، أليس المؤمن القوي خير إلى الله من المؤمن الضعيف؟ فالإسلام عمل وإنتاج وإعمار أرض وتحقيق علم وطاعة له وولاة الأمر.
من فضل الله علينا أننا كنا حفاة عراة، فأنعم علينا بفضله ومنه، فنحن والله نرفل في نعم كثيرة مستمتعين بأمن وأمان، كله من خير هذا البلد المعطاء، أصبحنا أمة نفخر بأنفسنا وبوطننا وبولاة أمرنا، وكل ذلك من الطاعات، وعلينا أن نفارق من يتشدق بالحديث عن الحريات المزعومة المجلوبة، فأنتم شباب هذا البلد محسودون بما أنعم الله عليكم من دين ودنيا، فلنقارن حالنا بحال غيرنا، ولنحافظ على هذه النعم بالأفعال وليس فقط بالأقوال، فوالله لن تجدوا أفضل ولا خير مما أنتم فيه، من أمن في الأوطان، وصحة في الأبدان، فغيركم كثيرون حاولوا الإصلاح فسعوا إلى الخراب، حاولوا أن يشرعوا على ما شرع الله فخابوا وخسروا، فاعتبروا واتقوا الله في أنفسكم وأوطانكم، فالإسلام منصور بالله وقد تعهد الله بنصرته، ولكن عليكم كل حسب قدرته وطاقته، وتحت راية واحدة، وبلد واحد، ودين واحد، ونعم كثيرة، لا يزيدها إلا شكرها فاجتهدوا واتركوا الركض خلف الأوهام، فأنتم محسودون، ويتكالب عليكم الأعداء.
الرسالة الخامسة إلى مجتمعنا..
إن لله في خلقه شؤوناً، وهو الذي دعانا أن نتفكر في أنفسنا، كما دعانا المعصوم إلى أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، فعلينا أن نقف مع أنفسنا، وقفة صدق، لننظر في أحوالنا وأفعالنا وأموالنا وتصرفاتنا، لنتأمل ونتدبر، وهذا هو الامتحان الذي عنده يكرم المرء أو يهان.
نحن مشغولون بأمور في حياتنا لا تثمن عند الله ولا تغني من جوع، كلها في مقاييس الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وكلنا نعلم ما قاله المعصوم: كلكم راع ومسؤول عن رعيته، إن مسؤولية هذه الرعاية لأمانة عظيمة في التربية والإعداد للأبناء، هؤلاء الأبناء حقا سوف يشفعون لنا، ولكن علينا، أولا أن نستحق هذه الشفاعة، وأن نكون أهلا لها بما نقدمه بين يديهم من تربية وإعداد، يجعلهم صالحين لدينهم وأمتهم وأنفسهم، وهذا هو حق الرعاية التي تستوجب شفاعتهم لنا.
علينا قبل أن نتدبر أمر أرصدتنا واستثماراتنا، من أموال وحسابات ربح وخسارة، أن نتدبر ميزان أعمالنا من صالح الأعمال وسيئها، فذلك هو الأجدى والأنفع حقاً، نعمل لدنيانا كأننا نعيش أبداً، ولكن بالمثل لآخرتنا كأننا نموت غداً، نحن لا ندري حكمة الخالق في كثير من شؤونه، ولكنا إن غابت علينا حكمته فهو سبحانه يقدر ما يشاء، فلا يجدينا ركض خلف الدنيا بعيون معصوبة، موجهة فقط في اتجاه الربح والخسارة الدنيوية، وننسى أن عند الله أضعافاً مضاعفة من الأجر والثواب، فإن كان لا خيار لنا في المصائب ونزولها، فإننا مطالبون بمقابلتها بالصبر والرضا، وأن نستمد منها العظات والعبرات، وأن يكون ما ندخره لآخرتنا خير مما نجنيه في دنيانا.
الرسالة السادسة إلى ولاة الأمر
ترددت كثيراً في ذكر خاطرة عن ولاة الأمر، ومن لهم علينا، بعد الله، إحسان وفضل، خشية أن يحسب ذلك من باب الرياء أو النفاق، ولكن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فلا يلومنك أحد في قول الحق في ولاة أمرنا.
إن ولاة أمرنا بابهم مفتوح لكل طارق وصاحب حجة، آناء الليل وأطراف النهار، وإن الاعتراف بالحق فضيلة، كنا قبائل متفرقة يغزو بعضنا بعضا، ويسلب بعضنا بعضا، فكان على يديهم ما ننعم به من أمن وأمان، فإن كان لديننا علينا حقاً، ووطننا علينا حقاً فلولاة أمرنا كذلك علينا حقا، لنا في أجدادنا وآبائنا أسوة حسنة، حيث وقفوا خلف ولاة أمرنا، حتى أصبحت مملكتنا مما نعتز به ونفاخر، لأن طاعة ولي الأمر، في غير معصية، لهي من طاعة الله، فأنتم - ولاة أمرنا - من رعيتمونا مواطنين وأبناء، وأنتم من تفرحون لفرحنا، وتحزنون لحزننا وتواسون وتهنئون القريب والبعيد، ممن عرفتهم ولم تعرفوا، ويعجز القول تعبيراً عن مواساتكم، رجالاً ونساءً شيباً وشباباً، وأنتم من ترفعون راية ديننا الحنيف، تحقيقاً لها، ليس سمعة ولا رياء ولا طلباً لمدح أو ثناء.
كلمة أخيرة:
ابني مترك: هذه خواطر كتبت نفسها، ولم أكتبها، حين تأملت عشية موتك في حال الحياة والأحياء، فكانت هذه الخواطر معينا على النهوض من حالتي الحزن أو اليأس، التي كان يمكن أن أكون فيها، فأنت يابني من حملناه رضيعاً، وفرحنا به طبيباً، وبكيناه فقيداً، ثم استبشرنا به شهيداً، فقد كنت لنا حياً وميتاً، نعم الابن الذي ستبقى ذكراه شاهدة بأعماله، وإن كان لكل منا يوم محدد، وموعد مشهود، فلتكن لنا شفيعاً، ولإخوتك وأخواتك خير موعظة واعتبار، فأبشرك بأننا عنك راضون، وعلى طريقك سائرون، إلى أن نلتقي في يوم لا يخلف فيه الميعاد، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
|