هناك حقوق يطالب بها أصحابها - وهم على حق في ذلك - ولكنهم يعلمون أنها لن ترد إليهم حتى لو بقي المطلوب منه عمره كله سجيناً.
السجون تمتلئ بالرجال الذين دخلوا السجون في قضايا تتعلق بالذمة، فهناك التاجر الذي أفلس ولم يستطع السداد وهناك من فقد المال الذي أؤتمن عليه بطريقة أو بأخرى دون علم منه فبقي في ذمته لأنه أمانته ودخل السجن بسببه، فبقي في ذمته من الغير وعجز عن السداد كما أن هناك من استباح مال غيره ولكنه اعترف بأنها في ذمته، وحقيقة نوايا هؤلاء جميعاً يعلمها الله وحده علام الغيوب، ويدخل هؤلاء جميعاً أو بعضهم تجاوزاً تحت مسمى المعسرين.
ولحل مشاكل الإعسار من هذا النوع هناك لجان من محبي الخير تقوم بالسعي في التسديد والمقاربة قدر المستطاع بين صاحب الحق والمعسر.
ولكن هناك حالات لا تستطيعها لجان الإعسار، وحالات يستبعد النظر فيها، وحالات لا تنطبق عليها الشروط فيبقى أصحابها قابعين في غياهب السجون ينتظرون رحمة من الله، بعد أن انقطعت بهم السبل عن رحمة الناس.
أتمنى أن يفكر أصحاب الحقوق في أحوال المعسرين الذين أمضوا سنوات عدة في السجون، والضرر الذي لحق بأسرهم وأولادهم فسيجدونه أكبر مما يطالبون به من مال مهما كثر..
إن هناك منكرات تترتب على دخول رب الأسرة السجن - إلا من رحم الله - فمذلة الحاجة قد تؤدي لانحراف الزوجة أو البنت وضياع الولد - لا سمح الله - نتيجة غياب الأب، وبدلاً من أن يفقد المجتمع شخصاً واحداً قد يفقد أسرة بأكملها، والقصص التي تروى عما يحيق ببعض أسر المساجين بأحكام مختلفة والمعسرين يندى لها الجبين ويدمى لها القلب وتفجر ينابيع الغيرة والرحمة بين ضلوع كل مسلم ذي مروءة وأريحية وإيمان.
إذا كان لدينا من يعفو عن القاتل.. قاتل النفس ابتغاء مرضاة الله وعفوه وغفرانه فهل المال أغلى من النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق؟!
إنه الإيمان وليس سواه.. الإيمان بأن من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وعليه يمكن قياس من أخرج سجيناً أو معسراً من سجنه إنقاذاً لأسرة كاملة من الفاقة والعسرة والحاجة والضياع، فماذا يكون أجره؟
أجره مغفرة الله سبحانه وتعالى.. فهل من مسلم لا يبحث عن هذه المغفرة، وأعظم مغفرة يهبها الله لعبد من عباده تلك التي ترتبط بالعفو عن الناس والتسامح معهم والتجاوز عنهم في الأمور المادية والمعنوية على السواء، فديننا كله حث على التيسير والتخفيف عن الناس، ودعوة إلى اللين والرحمة، وقد أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَنْ لا يَرْحَم لا يُرحم) والرحمة واجبة على كل نفس رطبة مهما كبر ذنبها والله نفسه الرحمن الرحيم أرحم الراحمين.
أسوق إلى أصحاب الحقوق من المسلمين الذين يحتاجون رحمة الله عفوه هذا الحديث النبوي الشريف وما فيه من عبرة ومثل، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، فكان يداين الناس فيقول لرسوله خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنَّا، فلما هلك قال له الله عز وجل : هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، لعل الله يتجاوز عنا. فقال له الله عز وجل: قد تجاوزت عنك).
(رواه أحمد في المسند 2-361) ومثله ما رواه أبو مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان رجلاً موسراً، وكان يخالط الناس، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، فقال الله عز وجل : نحن أحق بذلك منه تجاوزا عنه).
تجاوزوا عن المعسرين يتجاوز الله عنكم فيما هو أكبر من ذلك وأعظم.. تجاوزوا تنلكم دعوة أم أو زوجة أدخلتم السرور إلى قلبها بعد أن مسها الضر فيستجيب الله لها، فليس هناك أعظم عند الله تعالى كما جاء في حديث نبينا صلى الله عليه وسلم من إدخال السرور على بيت من بيوت المسلمين، وهذا لا يفعله إلا المحسنون.{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} فكونوا من المتقين ومن المحسنين ومن المغفور لهم برحمة إخوانكم المعسرين والله أرحم الراحمين.
|