Wednesday 24th November,200411745العددالاربعاء 12 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الاخيــرة"

الفلوجة وديمقراطية الموت والخراب الفلوجة وديمقراطية الموت والخراب
يحيى محمود بن جنيد

عندما نتابع أحداث الفلوجة في القنوات الفضائية والجرائد اليومية نشعر بعظم الجرم وفداحة الكارثة، رغم أن ما ينقل هو الأقل أهمية بسبب الحظر المفروض على المراسلين والمصورين، ومع ذلك فإن صور البيوت المدمرة، والقتلى في الشوارع، وما ينقله شهود العيان الناجين من المذبحة عن تناثر الأشلاء وتحول البشر إلى جيف تقتات الكلاب عليها، وانعدام الطعام والشراب والعلاج كل ذلك يجعلنا نستحضر حدثاً تاريخياً مؤلماً من خلال الأحداث المعاصرة في الفلوجة.
ففي سنة 656هـ اجتاح هولاكو بجنده من المغول البرابرة القادمين من براري وسط آسيا مدينة بغداد، ونفذوا في سكانها واحدة من أكرب الجرائم ضد الإنسانية، فأهلكوا الحرث والنسل، وهدموا المنازل والمساجد والمدارس، وهتكوا الأعراض، وقتلوا الأطفال.. وبعد أربعين يوماً من بداية الاجتياح، كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية: (بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت البلد من جيفهم، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء... ولما نودي ببغداد بالأمان، خرج من كان تحت الأرض بالمطامير والقُني والمغاير، كأنهم الموتى إذا نُبشوا من القبور، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرفُ الوالدُ ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا ولحقوا بمن سلف من القتلى).
ويقول ابن خلدون في وصف الحادثة نفسها: إن هولاكو بعد أن قتل الخليفة الشهيد المستعصم بالله العباسي وأسرته وكبار رجال دولته (ركب إلى بغداد فاستباحها واتصل العبث بها أياماً، وخرج النساء والصبيان وعلى رؤوسهم المصاحف والألواح، فداستهم العساكر، وماتوا أجمعين... وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعاً في دجلة).
وإذا كانت العبثية تجمع بين الفعلين اجتياج المغول لبغداد سنة 656هـ، واجتياح الأمريكيين للفلوجة سنة 1425هـ فإن الفارق بينهما أن هولاكو لم يقدم تبريراً لفعلته النكراء، بل واصل مسيرته التدميرية، لأن ما كان يسعى إليه هو نشر الموت والخراب في أكبر رقعة ممكنة من الأرض، في حين يبرر الأمريكيون فعلهم تبريراً يتفق مع أخلاقياتهم وقيمهم المبنية على الديمقراطية والتعددية وحماية حقوق الإنسان، وبالتالي فإن تدمير الفلوجة سببه الرئيس: ترسيخ الأمن، والقضاء على الإرهاب، وإشراك السكان في الانتخابات التي تعد أساس الديمقراطية الأمريكية الغربية، ومن أجل تحقيق ذلك فليس هناك ما يمنع من دك البيوت على رؤوس أصحابها، وقتل الأطفال والنساء، ومنع دخول الإمدادات الغذائية والطبية، لأن ناتج هذا الاجتياح سيدفع بمن بقي من أهلها إلى المشاركة في الانتخابات الديمقراطية القادمة التي ستكون حرة نزيهة تحت حراب الأمريكان الساعين إلى تأسيس أنموذج ديمقراطي يحتذى به في المنطقة كلها!.
ولقد لفت ما أقدم عليه الأمريكيون من تدمير في الفلوجة بدافع السعي إلى ترسيخ الديمقراطية نظر باحث مكسيكي هو هكتو كاريون، فكتب مقالاً نُشرت ترجمته في جريدة الوطن (الاثنين 3 شوال 1425هـ) تحت عنوان (الفلوجة هي جورنيكا أمريكا.. ولكن أين بيكاسو ليرسمها) وقد عرض في مقاله إلى ما وقع في جورنيكا وهي بلدة تقع في شمال إسبانيا أسقطت عليها الطائرات النازية في سنة 1937م قنابلها، لأنها كانت خارجة على حكم الديكتاتور الإسباني فرانكو، فقتلتْ 1654 مدنياً، فخلد ذكراها الرسام الاسباني بابلو بيكاسو في لوحة جورنيكا، التي تبرز أهوال الحرب وشرورها دون وضع أدنى اعتبار لقيمة الحياة البشرية، ثم أسقط ذلك الحدث المرعب على واقع الفلوجة وكارثتها، وذهب إلى القول: إن الولايات المتحدة تنكر كما فعل فرانكو في جورنيكا (أنها تستهدف المدنيين، لكن التقارير الخاضعة للرقابة التي تتسرب الآن (قبل الثالث من شوال) إلى خارج العراق، تقول: إن أكثر من نصف الجوامع في المدينة باتت ركاماً، وأن مشاة البحرية الأمريكية تستخدم غازات مميتة ومحرمة دولياً ضد المدافعين من المدينة، وأنها بعملها هذا ألحقت خسائر بشرية فادحة بصفوف المدنيين الذين بقوا في مدينتهم.. تقارير أخرى في وسائل الإعلام العريبة، تتحدث عن أن مئات الضحايا المدنيين ما زالوا تحت أنقاض المنازل التي ضُربت بقنابل الولايات المتحدة خلال العمليات العسكرية التمهيدية التي استهدفت تليين المدينة).
وإذا كانت المقارنة التي عقدها كاريون لفترة التليين، فلا نعرف ماذا سيقول عن حال المدينة عقب الاجتياح، وجلاء جزء من الصورة المرعبة لحالها، وقد عمها الدمار والخراب، ووقع خلالها قتل الجرحى العزل في مساجدها.
وقد لا نحتاج إلى مقالة أخرى لكاريون، لأن مؤرخاً عربياً هو ابن الكازروني الذي كان شاهداً على دمار بغداد، يقدم لنا وصفاً لها في مقامة له جاء فيها: (وافيتها بلدة خالية، وأمة بالية، ودمنة حائلة، ومحنة جائلة، وقصوراً خاوية، وعراصاً باكية، وقد رحل عنها سكانها، وبات عنها قطانها، وتمزقوا في البلاد، ونزلوا في كل واد، وقصورها المشيدة مهدودة، ونعماؤها مسلوبة معدومة، موشحة لفقد قطانها باكية، تسفي عليها الرياح السافية، فهل نرى لهم من باقية، فوقفت أبكيها، وأندب ربوعها، ومن كان فيها:


وأندب أطلالها تارة
وأبكي على فرقة الظاعنينا
فلو ذهبت مقلة بالبكاء
لفرط الغم لكنا عمينا

ولعلنا نردد مع كاريون المكسيكي، الذي أدمى قلبه دمار الفلوجة، بيتين لتقي الدين بن أبي أيسر:


لسائل الدمع عن بغداد أخبار
فما وقوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الزوراء لا تعْدُوا
فما بذاك الحمى والدار ديَّار

إن فاجعة الفلوجة ونكبتها ليست قاصرة على أهلها ولا على العرب والمسلمين وحدهم، بل هي فاجعة إنسانية، وكارثة بشرية تدمي القلوب.. وهي صورة مرعبة لما تقود إليه حرب جائرة من قوي ظالم ضد ضعيف أعزل.
لقد دفعت الفلوجة ثمن ديمقراطية الموت، بأشلاء سكانها وخراب بيوتها ومدارسها وجوامعها، تحت مسوغات تطهيرها من الإرهابيين، وكما قرأنا في التاريخ من يبرر فعل هولاكو فها نحن نسمع ونقرأ من يسوغ فعل الأمريكان، بل ويُشيد به، لأنه سيخلص العالم من مدينة كانت تهدد أمنه وتزعزع السلام فيه، ويجلب الديمقراطية، ويرسخ مبادئ حقوق الإنسان في العراق أولا، وفي المنطقة العربية ثانياً.
فسحقاً للسلام والأمن الآتيين مع ديمقراطية الموت والخراب.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved