عاصفة الانتخابات الأمريكية تجتاح المشاهد السياسية كافة، حتى لا تدع رجلين على قلب رجل واحد، ولا تنفك وسيلة إعلامية من الامتلاء بالقول ونقيضه. ففي كل أربعة أعوام، تندلق الألسنة بالرهانات، وتجري الأقلام بالاحتمالات، فلا تسمع إلا صراخاً لا يفيق، وإلا صريراً لا يهدأ. وكأن المصائر معقودة بناصية الرئيس المنتخب، فيما لا تثير أي انتخابات أخرى أدنى اهتمام.
وقبل أيام وضع اللزز الانتخابي أوزاره، والتقط اللاهثون وراء المتسابقين انفاسهم وتحول الفائز من خطاب الاستدراج المكشوف لكسب الناخبين، إلى خطاب التملق الممجوج، لكسب الساخطين من الأصدقاء. وإسكات عويل الضعفاء من الاضطهاد. وتخفيف ضجر الصامتين من الأنداد. وذلك التلون الحرباوي يستدعي عملية مرهقة من المحو والإثبات، وخدر الأعداء والأنداد ببوارق الأمل. ولسان الحال والمقال لوافد الحزب يقول: ما فات مات، ولك اللحظة التي فيها. والذاكرة العربية المعطوبة بنت لحظتها، لأن كلام الليل يمحوه النهار. ولو أن المستهدفين بالمحو والإثبات يستحضرون ما قيل بالأمس وما يفعل بهم، لما كان بإمكان اللاعب أن يستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأمريكا التي تذم بكل لسان، ويتملق لها كل إنسان، ستظل مشروع قراءة متعددة المناهج والآليات ونظريات التلقي. لأنها نص مفتوح، يتسع لكل القراءات. ولقد كنت مهتماً بهذه الرياضة الفكرية، منذ حملة الانتخابات ل(جون كندي ت 1963م)، الذي لم يكمل مدته، حيث اغتيل، وظلت عملية الاغتيال غامضة إلى يومنا هذا، وظل الحادث مشروع دراسات وتأبينات تثير الفضول، وما الغيلة إلا نتيجة متوقعة لكل مغرد خارج السرب، فأمريكا تحكمها المؤسسات السرية والعلنية، ولا مكان فيها للاستبداد الفردي، وبإمكان المتردد استعراض قائمة الاغتيالات التي اتهمت بها المؤسسات المعنية بتصفية أي عنصر يشق عصا الطاعة.
والحملة الانتخابية في أمريكا بالذات وجبة شهية للخلي وللشجي، ولهذا كانت رغبة الكتابة عن ضجتها تساورني منذ البدايات الأولى لها، ولا سيما بعد أن طالها شك التزوير، وخضعت للمراقبة الخارجية لأول مرة. ولما أزل أمني النفس بالحديث عن أمريكا خارج ظروف الصخب الانتخابي، بوصفها الفاعل الرئيس في كافة المشاهد، والموضوع الأهم لكافة المتحدثين ولقد أحسست أن الحديث عنها مطلب لكل المكتوين بنار انحيازها المكشوف والمسحوقين بجرائر حربها الظالمة، ولما كنت أحوج ما أكون إلى قراءتها بلسان قومها، بعيداً عن تشنجات الساخطين، ولغط الاعلاميين، وهلوسة المبهورين، كان لا بد من الإصاخة للشاهد من أهلها، والوقوف على آراء الساسة والمفكرين الغربيين، ومن ضارعهم في التجربة والمعرفة من محترفي السياسة وقرائها العرب أمثال (هيكل) وبخاصة في كتابه الأخير (الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق). ولهذا كان همي متجهاً صوب ما ترجم من مؤلفات اساطين الفكر والسياسة الأمريكية وكافة الناشطين في البحث عن تجليات الحرية، و(الديمقراطية)، وحقوق الإنسان المتداولة إعلامياً على ألسنة مسؤوليها في سبيل تبرير تدخلاتها. وأمريكا لا يستوعبها الناظرون إليها من خلال مطل (البيت الأبيض)، ولا الذين يمتعون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم بممارستها للديمقراطية وللحرية وتوفير حقوق الإنسان الأمريكي الأبيض، ولا الذين تبهرهم منجزاتها العلمية والمعرفية، ويشدهم استقبالها لكل المفكرين والعلماء، ويعجبهم احتفاؤها بالنظريات، وحفولها بالتجارب، وهيمنتها على اقتصاد العالم. إنها أطياف كما (قوس قزح) أو كما (المرآة في كف الأشل). أمريكا عوالم لا تحسم أمرها صرخات المقهورين ولا هتافات المبهورين ومع هذه الاستحالة فقد هيئت لي في صيف هذا العام إمكانية المرور بأكثر من عاصمة عربية، والمرور بما أقيم فيها من معارض دولية للكتاب، وحضور ما نفذ فيها من مؤتمرات: فكرية وسياسية وأدبية، وما احتدم من مناقشات في (اللوبيات) بلغت أقصى حد من التناقض، فمن لاعن مشيطن إلى مسبح مقدس. فكان أن اتخمت بما سمعت ورأيت، وعدت بجر الحقائب من الكتب التي تتخذ من السياسة الأمريكية مجالاً لها، وبخاصة ما كان مكتوباً بأقلام ابنائها: المختلفين مع سياستها الخارجية، أو المثقفين معها: من مأجورين أو ناقمين على ردود الفعل العالمي، ممن يميلون معها كل الميل. ومن منصفين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يجدون حرجاً في أنفسهم من أن يقولوا كلمة الحق، ويشهدوا ولو على أنفسهم.
والمتابع للراصدين والمحللين يذكر (روجيه جارودي) في شعرات الكتب، ومن أهمها ثلاثيته (قضية إسرائيل)، وإن كان فيما بعد قد ضل الطريق، ووقع في نخاسة الفكر، و(نعوم تشومسكي) في كتبه: (قراصنة وأباطرة) و(الأمريكية) و(ضبط الرعاع) و(تواريخ الانشقاق) وهما كتاب واحد ترجم مرتين، و(الصدمة 11-9) اضافة إلى الكتب التي ربما أنها أحدثت تحولاً في الرؤى والتصورات، مثل (صدام الحضارات) و(نهاية التاريخ) و(غطرسة القوة) و(درب السلام) و(العراك الدولي لتحقيق المزيد من المكاسب) و(من يجرؤ على الكلام) و(الاستعداد للقرن الحادي والعشرين) و(لعبة الأمم) و(اللاعب واللعبة) وكتب أخرى وكتاب آخرين، قد نستدعيهم كشواهد إثبات.
وكل هذه الكتب تستمد مادتها من مطابخ (البيض الأبيض)، وقد تشكل عمليات الانتخابات جانباً من المقبلات، فالفترات الرئاسية حواضن التجليات أو الاخفاقات وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة من أي فترة رئاسية يكون مرشح الحزب قد أخذ طريقه إلى منازلة الخصم، وذلك مدعاة لانشغال وسائل الإعلام بمخاضات الانتخابات التي تشكل ما بعدها - كما يتوهم البعض - ومع حدة الجدل، لم يلتفت أحد إلى الطرف الآخر (العالم الثالث)، ليسأل عما يفعل بعد أن يجد الرئيس المنتخب طريقه إلى (البيت الأبيض). ولهذا لم أكن أرى مبرراً لهذا الاهتمام بهذا الحجم، وإن كنت لا أجد بداً من متابعته، إذ فيه على الأقل رياضة فكرية، والرئيس الفائز مرتهن لذوي الفضل والإحسان عليه ممن أدخلوه البيت الأبيض، إلا أن له دوره الترجيحي أو الإقناعي أو الترددي في بعض القضايا، كما أن له دوراً في تشكيل حكومته المستجيبة لجماعات الضغط، فإما أن يجعلهم صقوراً أو حمائم أو يزاوج بينهما وتبقى القرارات المصيرية من شأن المجالس والهيئات المخترقة بأكثر من حيلة. والتعويل المطلق على (أجندة) الرئيس الانتخابية بناء على جرف هار. وإخفاقات الرهان على الفوز مرده إلى أن المراهنين يحلون أنفسهم محل الناخب الأمريكي، ويحملون معهم همومهم الاقليمية ويتصورون أنهم القضية الأهم في (الأجندة) الرئاسية يطلبون الحل، ولا يناشدون التخلي، فأمريكا لو تركت الشرق للشرقيين، لكان أن قام الصراع بين أقطاره وتياراته، وفي النهاية فالبقاء للأصلح أو للأقوى. وأضعف الأحوال أن تكون العملية بيد صاحب الشأن على حد: (يبدي لا بيد عمرو) ولما كان العرب والمسلمون مكتوين بنار الحروب الاستباقية التي استعرت بعد الحادي عشر من سبتمبر. ولما كان (البيت الأبيض) مرتهنا لضغوط اللوبي الصهيوني، ومتشبعا بقناعات اليمين الإنجيلي الذي يرى تجمع اليهود في فلسطين قضية عقدية، ولما كانت الحربان الشرستان الظالمتان في (أفغانستان) و(العراق) لم تحققا للشعبين المسلمين أي مكتسبات، فإن التخرصات حين لا تكون مرتبطة بهذه الأحداث، تكون من الرجم بالغيب.
والرهان العربي لم يجد التخفيف من معاناته إلا بالمرشح الديمقراطي (جون كيري)، إذ لا يمتلك أحد منهم مبادرة ذاتية، يستغني فيها عمن سيدخل البيت الأبيض. والرهان على المرشح (الديمقراطي) حفز الأقليات العربية والإسلامية في امريكا على التطوع في الحملة الانتخابية لصالحه، وكان التعويل على فوزه.
وأخشى أن يعود انحيازهم بموقف متشدد من (بوش) يحول دون تمتعهم بأبسط حقوقهم. ولأنني أعيش حالة من الإحباط واليأس، فقد تساوت عندي الليلتان، على حد: (ما أشبه الليلة بالبارحة)، وكلما دارت حول الرجلين مقولات عاطفية، تذكرت (شهاب الدين) و(حسام الدين)، فالمسألة بكل المقاييس داخلة ضمن خيارين أحلاهما مر. ومصائب الأمة العربية ليست حصراً على الرئيس المنتخب، بحيث تضع الأمة كل بيضها في سلته، إنها أعمق وأعقد من ذلك كله. ومتى علقت الأمة آمالها على الرئيس القادم، أصبحت كمن يلهث وراء سراب القيعان. وأذكر انني ذات يوم كنت أتحدث مع مجموعة من المهتمين بالشأن الانتخابي، ولم أكن أكثر من مثير ومستمع، ويومها قال أحد المتابعين: إن الفوز سوف يكون للرئيس (جورج دبليو بوش) واستغرب البعض هذا التوقع، تحت تأثير الكره المتأصل في النفوس، مع ما يعيشه (بوش) من اخفاقات كثيرة على المستويين: الداخلي والخارجي، غير أن صاحبنا المتابع ساق طرفاً من المبررات اللافتة للنظر، كالقول بأن (كيري) يهودي متنصر، ومغرم بالأرامل الثريات، فليس له قبول ديني ولا عشق نسائي.
ومع أن الرئيس (بوش) قد فاز فعلاً، إلا أن تلك الحيثيات قد لا تكون السبب الرئيس في النجاح. كما أن الفوز لم يكن كاسحاً، لا في الفترة الأولى، ولا في الثانية. واضطرابات الفوز التي تعرضت لها عملية الانتخابات الأولى، كادت تعود مرة ثانية، لولا ان حسمها (الديمقراطيون) بإعلان الهزيمة في وقت مبكر. ولم أعهد رئيساً من قبل تعرض لمثل هذه الاحتمالات، مثلما تعرض لها (بوش). وبهذه البوادر المخيبة للآمال، لم يكن هو الخيار الوحيد للناخب المكره، وكل الذي أتصوره أن خيار الشعب الأمريكي محصور في سببين:
الأول: أن (بوش) بدأ حرباً غير شرعية، وهي لما تزل في ذروتها، والشعب الأمريكي مع خيبة أمله، لا يريد مزيداً من الترديات فيما لو جاء رئيس جديد، فالشعب يريد أن ينهي الرئيس مغامرته بنفسه وعلى مسؤوليته.
الثاني: أن (الديمقراطيين) لم يكونوا موفقين باختيار مرشحهم، فأصبح خوف الأمريكيين من دخول (كيري) للبيت الأبيض، وهو دون المستوى المطلوب ملجئاً إلى الرئيس (بوش)، ويمكن استذكار خطئهم عندما اختار (آل جور) نائباً يهودياً فاليهود وإن كانوا من أقوى جماعات الضغط إلا أن الشعب الأمريكي لا يقبل دخولهم البيت الأبيض كرؤساء وذكاء الحزب الجمهوري أبقى على خلافات الحكومة حتى فاز بفترة ثانية، ثم تلاحقت الاستقالات، وبالذات وزير الخارجية الذي يعد حمامة في جماعة الصقور.
وإشكالية زعماء العالم المعاصر كافة أن ثورة الإعلام والاتصالات، والتوفر على أدق التفاصيل بالصوت والصورة وبشكل فوري وميسر، كشفت المخبوء، واسقطت كل الأقنعة، وأطفأت ألق الزعماء المصطنع، ولم يعد أحد منهم وراء حجبه الخادعة، مما زهد الناس بهم جميعاً، وأذهب هيبتهم، وحولهم من التصنيم إلى الأنسنة. ولو عاد عمالقة الخمسينيات والستينيات إلى المشهد السياسي من جديد، لكانوا كما (بلير) و(بوش) و(شيراك)، ذلك أن زمن الاحتجاب ليس كزمن التجلي، وفي المثل (أزهد الناس بالعالم أهله) لمعرفتهم الوجه المحجوب عن العامة. ولعل تخلي من يحق له الانتخابات عن حقه دافعه الإحباط، فالجاذبية الشخصية لم تكن ممكنة في ظل الوهج الإعلامي.
ومع كل الإمكانيات المتاحة فإن مفاجآت الانتخابات تلجئ الحيارى إلى قراءة الكف السياسي والاستنجاد بالمشعوذين، وتحمل متاعب البحث عن أدق التفاصيل لفك الشفرات المطلسمة ومهما حاولنا التنبؤ فإن نبض الشارع الأمريكي مخادع، ومخالف لكل التوقعات، الأمر الذي جعل الرهانات عليه تبوء بالفشل الذريع، فهو لا يختار بالفعل رئيسه بمحض إرادته، بحيث يستدعيه من الظل، بعيداً عن جاهزيات الأحزاب واللوبيات والشركات المتعددة الجنسيات.
إن أقصى ما لديه أن يفاضل بين مرشحي الحزبين الرئيسيين، وقل أن يظفر مستقل بالفوز، ذلك أن مرشحي الأحزاب حملوا بمحفات نسجتها أطماع الشركات.
فالطريق إلى (البيت الأبيض) تمهده مئات الملايين من الدولارات التي لا يقدر على توفيرها مستقل لا ينتمي لحزب، ولا يمالىء شركة، ولا يسيطر على إعلام، فمئات الملايين تملكها الشركات العملاقة، والكلمة النافذة تملكها المؤسسات الإعلامية القوية، والمسألة في النهاية: (مادة وإعلام)، ومقال (تشارلي ريس) الديمقراطية في خطر) (الوطن 5-10- 1425هـ) تعبير صادق عن زيف الانتخابات وارتهان الرئيس للممولين.
ولما كان اليهود أكثر الأقليات امتلاكاً لهذين العنصرين، فقد كانوا من أقوى جماعات الضغط ومثلما قيل عن (المال) و(الإعلام) قيل عن اليمين المتطرف، وعن الأصولية، وعن المتدينين، الأمر الذي أدى إلى تهميش العنصرين : المادي والإعلامي في خطاب المحللين، وإحلال العنصرين: الديني والأخلاقي.
وهذه الرؤية وإن كانت محتملة لا تأخذ مكانها في سياق رؤى مماثلة وهؤلاء الذين يمترون أخلاف المؤشرات ما ظهر منها وما بطن، يأخذهم شيء من التفاؤل الحذر، فالاعتدال والأخلاقيات، وتمتين العلاقات مع الأصدقاء التقليديين، هي بعض (أجندة) الأصوليين الذين ثبتت الكنائس أقدامهم، وكثرت سوادهم باستغلال العاطفة الدينية المسيطرة على أكثر من أربعين بالمائة من الشعب الأمريكي ولو صدقت هذه الرؤية - مع أننا لا نقلل من شأنها - لكان الفوز كاسحاً ولما لم يكن كذلك فإن الأسباب الرئيسة والحاسمة غير ما أشار إليه المحللون والراصدون، والمسألة في النهاية ستكون مثل (كرة الثلج) تزداد بالدحرجة.
|