Monday 22nd November,200411743العددالأثنين 10 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "زمان الجزيرة"

العدد (391) 3 - 4 - 1392هـ الموافق 15 - 5 - 1972م العدد (391) 3 - 4 - 1392هـ الموافق 15 - 5 - 1972م
ابن خميس في شعره صورة حديثة عن أبي الطيب المتنبي

* بقلم د. عبدالله بن ناصر الوهيبي :
كان الشيخ ينقل خطواته بهدوء وطمأنينة، نحو مسجد قرية الملقى من ضواحي الدرعية ليمكث فيه ريثما يطل الصباح على الكون، ويبدد جحافل الليل بأشعته المائسة، كي يؤدي - أعني الشيخ - صلاة الصبح جماعة، وكان يفكر في أسرته التي لم يعرف النوم طريقه إلى أعينها في هذه الليلة انتظاراً لحادث سعيد وحيثما رجع من المسجد قابله البشير عند باب الدار يبشره بمولود ذكر، فحمد الله على اثر هذه البشرى واستزاده من نعمه وآلائه. وكأنما كان تفكيره يخترق حجب عشرات السنين المقبلة، فقد قال في نفسه يا لهذا المولود من شاعرٍ: لم يشرق على الدنيا إلا في أفضل أوقات الشعراء، أو كأنه قصيدة روعيت في نظمها الأوقات المختارة.
درج الطفل في سني حياته، وفي الثالثة من عمره انتقل والده إلى الدرعية، وهناك أدخله والده الكتّاب الذي كان مقصوراً على القرآن الكريم واستنساخ بعض آياته كتمرين على الخط، ولكن الأسر المتعلمة لا تكتفي بهذا النزر اليسير من العلم لأولادها، وأسرة صاحبنا كانت تحمل هذا الشرف العالي.. فجده عبد الرحمن بن خميس كان إمام ومدرس مسجد الطريف بالدرعية، وجده عبدالله من أفاضل العلماء، وعمه محمد ظل قاضياً في الرياض أوائل هذا العهد الزاهر، أما والده فقد كان على جانبٍ من العلم والأدب ولاسيما حين يتناول البحث أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية وتعبير الرؤيا، وإذا أضفنا إلى هذا كله جو الدرعية الحالم وموقعها الخلاب ووديانها الخصبة أدركنا مدى ما يجب أن يتوفر في هذا الشاب - على صغر سنه - من علمٍ وأدب أهلاه لأن يقرأ في بعض المناسبات على والده شيئاً من الكتب الدينية والأدبية.
.. وكان يسمع قراءاته بعض أعيان البلاد فيرون منه ذكاءً وفطنةً لايملكون معهما إلا أن يبثوه ما في نفوسهم من إعجاب به وتقدير له، ولا إخالك أيها القارئ تجهل ما للتعضيد والتشجيع - خصوصاً من الكبراء - من أثرٍ فعّال في مواصلة الدرس والإنتاج، والحرص على هذه المرتبة وطلب المزيد عليها، لذلك كان هذا الشاب ولوعاً بالكتب - على قلتها ان ذاك - وكان يستفيد منها ويفيد.
هذا إلى أن والده باشتغاله في الفلاحة قد أكسبه ثقافة عملية في هذا الميدان فأشرب فيه روح الزراعة وحب عاداتها وتقاليد أهلها، لذلك تراه لايتردد في إشعال هذه الجذوة وامدادها بالوقود حيناً بعد حين:
على هذا النحو نشأ شاعرنا وهي نشأة تقارب - إلى حد ما - نشأة شعراء هذا القطر في العصور الزاهية، وكانت لديه أوقات للفراغ، ولكنه لم يكن يصرفها دون أن يعود منها بفائدة تعادل قيمة الوقت وتساويها، فجعل من الأودية الذهبية والجبال التي اتزرت من أزهار الربيع بأحسن مئزر جعل منها مقره حين يفرغ فهو تارة يتغنى بهذا الجمال البارع الفتان الذي يبدو أمام عينيه كبساط أخضر، تتخلله جداول تنساب فيه انسياب النسيم العليل، وهو تارة يزاول مهنة الصيد فيرتاد البراري والفلوات، ولم يكن لينسى هذا بل على العكس أنه دائم الحنين إليه كثير التشوق إلى ذلك العهد الباسم فهو يناجي نفسه وجليسه أيضاً:


حبذا حجر ومن يسكنه
وأهيل الود من وادي ثمامه
حبذا الآجام من حولنا
ما أحيلى وحسن جو ونعامه
ذاك مفناي ولا أبغى به
بدلا ولتفتدي نفسي رغامه

أرأيت هذا الإحساس الدقيق، وهذه الأمنيات الحبيبة؟ لكأنه يتحدث بلسان كل فتى تذكر عهد الصبا فتمنى لو يعود وتمثل بلاده فراح يضحي بنفسه في سبيل افتدائها، هذا هو حق البلاد ولكن قل فاعله.
لكنه وقد شعر بما عليه من واجبات وحقوق سئم هذا النوع من الحياة، وأراد لنفسه حياة الجد والعمل، فغادر الدرعية واتصل بأحد الأمراء وهناك صار يقتنص ساعات من يومه كي يتسلل إلى المكتبة الزاخرة بأنواع العلوم والآداب، وأقبل على كتب الشعر العربي القديم ينهل منها ويعل ويعب ما بين ذلك عبا، فحفظ الكثير من أشعار العرب وآدابهم، وكان قبل هذا يقول الشعر، ولكنه الشعر النبطي السائد بين أهل بلاده، فترك هذا وأقبل ينظم الشعر العربي الفصيح وسترى -فيما بعد - انه كان محسناً كل الإحسان في هذا الفعل الذي جاء في الوقت المناسب.
وحينما فتحت دار التوحيد أبوابها، التحق بها تلميذاً بها، فصار مثالاً للأخلاق الفاضلة، والتلميذ النشيط، والزميل الحريص على مصلحة زملائه وجلب السرور إليهم.
ظل في دار التوحيد الى نهاية عام 1369هـ حيث نجح منها والتحق بكلية الشريعة في مكة المكرمة، كل سلسلة هذه الحوادث التي مرت بين عينيك إنما هي أثرٌ من آثار الصداقة.. الصداقة في معناها الصحيح.. فأصبح صاحبنا يهتف للصداقة والأصدقاء كلما تذكر عهوده الماضية:


ما عاتب الحر الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس الصالح

أخلاقه
يمتاز صاحبنا بأخلاق أرق من النسيم حين يهب من حديقة فيها الورود وفيها الرياحين، لست أدري كيف اكتسبها؟! إلا أني أعلم أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، تواضع في احتشام، هذا هو ما أستطيع ان أقوله بعد أن عرفت الزميل وسبرت معاملته، فهو يخجلك بتواضعه ولكنه في الوقت ذاته عزيز النفس، وفي إلى أبعد الحدود، يأسرك أسلوبه حين تتحدث إليه وتشعر أنك - في بداية الحديث - أمام إنسان يساويك فتنساق وراء خيالك تريد التغلب عليه، ولكن لا تلبث أن تجد نفسك أمام الأمر الواقع، وقد حلق هو في الأجواء البعيدة، وتظل ترى آمالك تنقض وتتراكم أمام عينيك، لا يحب اعلامك أنه خير منك تفكيراً وأصوب رأياً، لا، أنه يشكرك على الرأي الجميل وان يكن في الحقيقة هو مبديه.
شعره
وهل يصح أن نتكلم عن شاعر دون أن نتحدث عن شعره؟ فالواقع أن الأخ شاعر من الطراز الأول ما في ذلك من شكٍ، يميل إلى ابتكار المعاني في كثيرٍ من شعره، وهو يولد المعاني الجذابة الآسرة، ولعلك لو ذهبت تحصي هذا في شعره لوجدته كثيراً وكثيراً أما أسلوبه فلا أغالي حين أقول إنه صورة حديثة عن أبي الطيب المتنبي، وقد يكون لبيئته التي نشأ فيها أثر في تكوين هذا الأسلوب، وقد يكون الأثر لقراءته الأساليب الجزلة والأشعار القوية، ولا استبعد كون هذا أثراً لهذين العاملين معاً، وليعذرني القارئ العزيز حين لا أقدم إليه النماذج الكافية، لأن الزميل العزيز لايريد أن يساعدني على هذه المهمة الشاقة فهو قد ضن علي حتى بأبيات طلبتها منه، وذاكرتي - مع تسليمي للقضاء - لا تساعدني أيضاً على أهدافي، فهي إلى جانب أنها لا تلتقط كثيراً لا تحتفظ بما تأخذ، فتراني حين اختزن فيها شيئاً، ثم اتي لطلبه لا أجد إلا صداه يرن في جوانحي، ولعلي أوفق حين أرسم - معك أيها القارئ - منهج هذا الشعر في بضعة أبيات استطعت أن أجدها عند أحد الإخوان المعجبين بالشاعر العزيز، وسنرى - معاً - الأغراض التي يسعى نحوها شاعرنا والطرق التي يسلكها:
أخفقت كثيراً في أن اتحصل على شيءٍ من شعره الغزلي ولم أجد إلا هذه الأبيات:
هاهو ذا يخاطب حبيبه:


أنت من دنياي أقصى بغيتي
ونصيبي في الهوى ما دمت حيا

حقيقٌ بمن كانت هذه حاله معه الا يجرعه صاب الهجر والنفور، ولكن:


أنا لا أشكر جفا تفعله
فاجفون ما شئت أو أحسن اليا

لماذا ندخل بينهما أنحن أشد شفقة بأحدهما من الآخر أو أقرب إليه؟


هل حبيب أظهر الشكوى له
غيركم يجلو القذى عن ناظريا

لقد قطع علينا كل طريق، واذهب عنا كل أمل، فهو لا يريد الشكوى إلا إلى حبيب ولا حبيب له إلا هو.
وهاك نوع آخر من أغراضه، لقد ثقل عليه هذا البغيض بما يأتيه من أفعال الحمق والغباء وبآماله التي لا تمت إلى الواقع بصلة:


والأماني مع هذا جمة
كل يوم هيئة أو مؤتمر

لِم هذا؟ نعيش في عصر الذرة والرادار ونرجع بأنفسنا إلى عصور ما قبل التاريخ:


نطلب الغول وعنقا مغرب
يا لقومي من أحاديث السمر
الشباب في كل أمة عنوان مجدها

إلا في أمتنا فهو يستعدى عليهم:


من نصيري من شباب أرعن
أبدرت أقرانه وهو استسر؟

أيليق هذا بالشباب؟ ولكن شبابنا مجاز لا حقيقة، فهو قد:


أخذ الممقوت من بيئته
وأبى في قاعه البحر الدرر

وراح الشباب يردد كلمات جوفاء بذكر تاريخهم القديم وآبائهم الفاتحين:


اتركوا الفخر بآباء مضوا
إنما في حلبة السبق الفخر

كونوا عصاميين تنالوا ما تريدون وتحققوا أهدافكم:


ما بنى يوما عظامي علا
لو على أجداده هام القمر

واتركوا الاستهزاء بأناس لم يقرر لهم أن يجدوا ما وجدتم:


فجمال المرء في همته
ليس في الهندام أو حسن الصور

ولقد أتت عليه أيام ظن فيها أن الدنيا قد عادت إليه معتذرة عما أسلفته بجانبه من الأخطاء، وانه ليظن هذا الظن وإذا بالنبأ المفجع الأليم يسقط عليه سقوط الصاعقة، والده مات، يا لها من مصيبة تذهب بلب الرشيد، فراح يتأمل أنقاض آماله التي كان منذ لحظة يشيدها، ما أغدر الدنيا وأشد نكباتها حين تبتسم:..


إذا ما بدت تختال في زي غادة
وراقك منها حليها وبرودها

ثم استدنيتها نحوك لتحظى بعطفها وحنانها وطيب لقائها:


وجاءتك طوع الأمر يبسم ثغرها
كأن شقيق الجلنار خدودها

فلا تستعجل بالهتاف لها والفرح بمجيئها، فكثيراً ما:


أشاحت بوجه مكفهر كأنما
تقمصه شمط العجائز سودها

ولقد عاب قوم المديح فأجابهم الشاعر بأنه:


يحلو المديح إذا أنيط بأهله
وأراه في غير الكرام فضولا

لا إفراط ولا تفريط هو حسن في مواضعه قبيح حين يوضع في غيرها والعلم من أجله تنفق الأموال الطائلة والأوقات الطويلة:


العلم حصن للشعوب وجنة
كبر على شعب يكون جهولا

أما أنا فمع الشاعر في هذا، اني لا أرى أن يعلو الشعب الجاهل لأنه قذر لا حرمة له، أليس من الأحسن أن تنتفع به الوحوش؟!
يخطئ بعض الناس في تقدير الحياة ويظلمونها بذلك:


ليس الحياة كما توهم جاهل
عيش الكفاف ومستوى محدوداً

لا، ليست هذه هي الحياة أنحن بهائم تعيش لتأكل فقط؟


ان الحياة هي الصراع فكن بها
أسداً يصارع أذؤبا وأسوداً

وأخيراً فإليك أيها القارئ العزيز هذه التحفة التي أعتز بها وأراها من الفرائد في ميدانها جرى بها نفس الشاعر من قلبه وعاطفته:


تلك الليالي بما بين الورى دول
تكرارها بين ادبار واسعاد
لو قيل من صفوة الدنيا وزهرتها
وذو السيادة من قار ومن بادى
لاعربت لغة الأقوام قائلة
ومن يضاهي قديماً أمة الضاد
واليوم تستنهض الأجداث نادبة
وأحر قلباه من أهلي وأحفادي
ثكلى تعض على إبهامها حنقا
وتتقي بيديها سوءة العادي

هذا، ونستطيع أن نجعل أهداف الشاعر في هذين البيتين:


لئن لم نخلد في الأنام فعالنا
فأولى لمن يهوى الرذيلة قبره

لقد أبصر الهدف ولم يبق عليه إلا أن يسير في اتجاهه مستعينا بالعلم:


فبالعلم تزداد الشعوب جلالة
ويجنبها كيد العدو ومكره

ذلكم هو الصديق العزيز الشاعر عبدالله بن محمد بن خميس، واعترف أنه لو سنحت لي الفرصة ووقعت يدي - ولو خلسة - على ديوانه لأخرجت من جواهره ما يشتاق إليه كل شاعر فنان وقارئ ذواقة، على أن فيما قدمت أنموذجاً مصغراً لهذا ولا يزال الوقت - كذلك - متسعاً أمام شاعرنا كي يسير إلى الأمام فهو في ربيع حياته، وفقه الله وأعانه


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved