قلت في مقالي السابق إن الكل في مأزق ، وهو في مأزق يتفاقم يوماً بعد يوم، والدليل مايجري الآن في الفلوجة وما سيجري في مدن أخرى بعد حين. فقد ركنت الأطراف الفاعلة في الساحة العراقية إلى حسم الأمور عن طريق العنف بأعلى درجاته. والعنف كما يعرف العقلاء قد ينجح في كبت مظاهر المعارضة وحجبها عن الأنظار تحت السطح بعض الوقت. ولكنه لايستطيع استئصال جذورها إلى الأبد، بل العكس، فهو يمدها بأسباب النماء حين يغذيها بإحساس بالقهر ورغبة بالثار. وهكذا تتجدد دوامة العنف وتتدحرج من موقع لآخر. والدولة كما قال الوزير القدير المرحوم سعيد قزاز تحكيم بالهيبة لا بالعنف. ولا تتأتى الهيبة إلا لمن يتعالى في أعين مواطنيه عن شبهات العمالة وخدمة الأجنبي ودنايا الركض وراء المطامع الشخصية بمختلف أنواعها.
وأعود بعد هذا الاستطراد إلى ما ابتدأت به من تساؤل عن الحل، فأقر بدايةً بتفاؤلي رغم حلكة الظلام من حولي، انسجاماً مع قاعدة (اشتدي أزمة تنفرجي). إذ يلوح لي إن عوامل حلحلة الاستعصاء أخذت تلوح في الأفق: فقد أعيد انتخاب بوش لفترة رئاسية ثانية فتحرر بذلك من ضغط هاجس الفشل، ولم يعد بحاجة لمواقف متشنجة يثبت بها للمقترعين جسارته وجدارته القيادية في سوح الوغى. ولعله الآن سيعيد النظر في اندفاعاته السابقة التي أقحمت بلده والعالم في مآزق ضيقة، كما أن حسم معركة الفلوجة لصالح قوات الاحتلال، وذلك ما سيحدث خلال أيام نظراً لاختلال ميزان القوى الكاسح، سيلبي حاجة في نفوس الأميركان ومشايعيهم من الساسة العراقيين للثأر لكرامة مهدورة مرغت بالتراب طويلاً على أيدي المقاومين ولعل أولئك المقاومين سيستخلصون من نتائج المعركة دروساً غاية في الأهمية: فيدركون الفرق بين آفاق الجموح وإمكانات الواقع، ويضبطون إيقاع حركتهم ضمن منهج واعٍ يحد من التوهجات العاطفية التي تدفع بعضهم نحو تجاوزات لاتخدم القضية.
فإذا قدر لتلك التوقعات أن تتحقق انفتح السبيل للحل. ويجدر أن تكون خطوته الأولى هي المؤتمر الدولي الذي سيلتئم في شرم الشيخ في أواخر هذا الشهر حيث على الدول المشاركة فيه أن ترتفع إلى مستوى مسؤولياتها فتمارس ضغطاً حقيقياً على الإدارة الأميركية لإعادة القضية العراقية إلى الأمم المتحدة. وعند ذاك يعلن مجلس الأمن وصايةً دوليةً على العراق لمدة قصيرة محددة، توكل خلالها مهمة حفظ الأمن فيه إلى قوات دولية أغلبها من الدول المحايدة. كما تناط مسؤولية تصريف الأعمال في البلاد لحكومة تكنوقراط غير سياسية. وتلي ذلك دعوة كل الأطراف العراقية دون استثناء للاشتراك في مؤتمر تأسيسي يعقد تحت إشراف دولي لوضع دستور دائم وقانون انتخاب يقرهما الشعب باستفتاء عام، يعقبه انتخاب حكومة دائمة تنتهي الوصاية بتسلمها لمهام عملها.
أهو حلم؟ ربما، ولكن أكثر وقائع الحياة الماثلة أمامنا بدأت أحلاماً ثم جسدتها الإرادة الإنسانية.
( * ) سياسي عراقي مستقل |