صادف يوم الخميس الماضي اليوم العالمي للفلسفة الذي تحتفل به منظمة اليونسكو في العديد من العواصم العالمية. ومن تعريفاتها العديدة يمكن القول ان الفلسفة هي تأمل واستطلاع يتمظهران في سعي الفرد إلى سبر غور كل المسائل وصولاً إلى قانونها العام (سلوى بعاصيري). وتعد الفلسفة أصلاً تفرعت منه العلوم، وقد عالجت منذ أيام الإغريق السياسة والأخلاق والعدالة والقانون والحق.. وهي الآن تفرعت في مجالات علمية شتى، كعلوم المعرفة والقيم والمناهج. فإذا كان العلم يروم حقائق الأشياء فالفلسفة تتفحص في شروطها المعرفية وقيمة قوانينها التي تؤدي إلى اكتشافها والأسس المنهجية التي تقوم عليها.
وتثير مناسبة اليوم العالمي للفلسفة أسئلة فكرية شتى حول أهمية الفلسفة ودورها كأبنية نظرية تتناول المعرفة والوجود والقيم، وحول وجودها في عالمنا العربي..
لعل أول ما يتبادر للذهن هو الاستفهام حول وجود الفلسفة أو نهايتها بعد أن نعاها كثير من مفكري الغرب خاصة مع طروحات ما بعد الحداثة والتفكيكية.. فإذا كانت الفلسفة تعنى بمسائل الوجود والماهية والمعرفة والقيم.. الخ، فإن مجالات الفكر والعلوم الأخرى تعنى بتلك المسائل حسب حقولها المعرفية، بما يكفي. لذا أصبحت أهمية الفلسفة تتضاءل، خاصة مع الانتشار الكبير للثقافات الإعلامية والفضائيات التي تنتج فكراً سطحياً معلية شأن الثقافة البصرية على ثقافة القراءة العميقة.. ولم يعد من المقنع في ظل نشوء اهتمامات علمية جديدة (خاصة العلوم الإنسانية) تدرس مسائل الكون والمجتمع والإنسان، أن تبقى الفلسفة الحقل المتميز للتفكير بهذه المجالات.. وعلى النقيض يرى بعض المفكرين أن كل تقدم في العلوم والتكنولوجيا يطرح مشكلات جديدة أمام الفلسفة، لتبقى الفلسفة ضرورة معرفية لمسيرة الحياة البشرية. فعلى سبيل المثال أثار التقدم في البيولوجيا خاصة الهندسة الوراثية، مشكلات أخلاقية وفلسفية ضخمة مما حدا ببريطانيا مثلاً لتشكيل لجنة بحثية برئاسة أستاذة فلسفة للتعامل مع هذا النوع من المشكلات. ورغم أن أحد أهم من ارتبط اسمهم بمقولة (نهاية الفلسفة) وهو جاك دريدا، فإنه عارض تلك المقولة موضحاً الفرق بين النهاية والختام.. فهناك ختام للميتافيزيقا وأزمة للفلسفة وليست نهاية، وفي ذلك يقول: (لا أؤمن بنهاية الفلسفة. حاولت أن أفرق بين الختام والنهاية لكن وجود الاختتام لا يرمز إلى توقف الفلسفة. كما قلنا هناك أزمة ولكن هناك إنتاج أيضاً.. وهكذا هناك اختتام وليس نهاية. لا أعتقد بأن الفلسفة أشرفت على الانتهاء وينبغي ألا تنتهي. إنني ضد الخطاب الذي يقول بموت الفلسفة. من الناحية السياسية والمؤسساتية، أدافع عن مبدأ تدريس الفلسفة، والبحث الفلسفي أداة نقدية ضرورية حتى من وجهة النظر السياسية. وهي طريقة للبحث في عمق العلوم. إذن يمكن أن نفكر باختتام الميتافيزيقيا وضرورة تواصل الفلسفة. والدليل أنها مستمرة بكل الوسائل. وما أطلق عليه (التفكيك) هو طريقة تفكير للاختتام لا تنتهي. ينبغي المحافظة على طرح التساؤلات الفلسفية على الدوام).
ويثير يوم الفلسفة العالمي مسألة الافتقاد إلى الفلسفة في العالم العربي، ومسالة وجود فلسفة عربية. فكثيرون (سعد البازعي، محمد جابر الأنصاري، عاطف عراقي) يشككون في وجود فلسفة عربية معاصرة، أو إسهام فلسفي يمكن وصفه بأنه (عربي) يتميز بصدوره من سياق ثقافي غير السياق الثقافي الغربي، ولكن هذا لا يعني بأي حال غياب فكر عربي متميز، لأن الفكر انشغال عقلاني لكنه ليس مربوطاً بالأسئلة التي تطرحها الفلسفة عادة التي تشكل الموروث الفلسفي كأسئلة الوجود والماهية والمعرفة. وعلى العكس يؤكد الباحث اللبناني جورج زيناتي بأن الفلسفة العربية موجودة وكذلك الفلاسفة العرب، فذلك وجود تظهره الكتب الفلسفية الصادرة كل عام بالعربية، لكنه يتساءل عن مدى تأثير هذه الفلسفة في الجمهور مع الافتقار لنقاش فكري حرّ من دون قيود ولا تسلط. في مثل تلك القيود وغياب التعددية تظل الفلسفة رهينة رؤية لا تاريخية تجعلها مفصولة عن الأحداث، وتظل رهينة أفق التوافق لا أفق التجاوز، ما دامت إستراتيجية التفكير عن العرب تحكمها قواعد وثوابت لم يستطع الفكر الفلسفي العربي خلخلتها أو تجاوزها، مما وضع عوائق تحول دون ملامسته سطح الكونية كما يرى عبد العزيز بو مسهولي رئيس مركز الأبحاث الفلسفية في المغرب الذي يرى أيضاً، أن إمكانية وجود الفلسفة في العالم العربي مرهون بتحررها من الوصاية المهيمنة على المؤسسات والأفراد، فعمل المؤسسات العربية يتخذ توجها نحو إغلاق سبل التفكير واستبدالها بسيوف التكفير، والقضاء على الإبداع، وإشاعة الرأي الذي لا يحيا إلا في حياة التشابه والتطابق، ولا يؤمن بقدرة العقل.. وفي عالم اليوم تصطخب الحياة بثورات تكنولوجية ومعرفية، وعولمة طالت كل أرجاء البسيطة وأحداث سياسية مرعبة تتلاطم بها منطقتنا العربية.
فمن الطبيعي أن البشر الموجسين خيفة يتحصنون خلف تأويلاتهم وقناعاتهم القديمة صحيحها ومعتلها. ومع زيادة حدة الصخب يلجأ أناس إلى بديهياتهم وأنماط تفكيرهم السابقة، وقد يستأنسون بخرافاتهم وإشاعات تدغدغ عواطفهم. هذه المنظومة المعرفية تحتاج للمراجعة. فبدون حصافة فكرية وعلمية تلائم وضعنا العربي نغدو أسرى الانفعالات، وبدون تحصين منهجي فلسفي يؤطر فكرنا ومصالحنا تلتبس معاييرنا في الموازنات العقلانية بالساحة الفكرية العالمية، فلا نفهم العالم الآخر ولا يفهمنا، ويختل الميزان بين منافعنا وقناعاتنا.
وهنا نتساءل، في ظل التحول الهائل والتطور الكبير بكل مناحي الحياة في مجتمعنا السعودي وفي خضم الأحداث الداخلية والعالمية الحادة التي تؤثر فينا بقوة، ألا نحتاج إلى تطوير في طريقة التفكير وفي تفسير الأحداث جديدة التعقيد، توضح لنا موقعنا في العالم وتدعم موقفنا وتصون مصالحنا؟ ألا تتطلب التغييرات الجذرية التي حصلت تغييراً في منهج التفكير وأساليبه؟ وهذه تتطلب مراجعة للمناهج التربوية كمواد دراسية وكنظام تعليمي.
ان إحدى الإشكاليات التي نعاني منها في ظل التجاذبات الفكرية المتوترة هو افتقار كثير من فعالياتنا الثقافية للتأمل الذهني والتفكير الفلسفي (التفلسف) وتنظيم الأفكار والحس الحواري أو الجدلي. فخلف بعض هذه الفعاليات مريدون مجتهدون تأخذهم الحماسة والعفوية في الاندفاع نحو ما تمليه القناعة الفكرية الجاهزة العاطفية والسطحية دون معايرتها أو موازنتها عقلياً. وفي زعمي أن ذلك مرده ظروف عديدة أحدها، ولو جزئياً، وهو ضعف التأطير الفلسفي والتأسيس المعرفي في ثقافتنا، ومن ذلك افتقادنا لتدريس مادة في الحكمة أو الفلسفة أو في التفكير المنهجي في مناهجنا التربوية على المستوى الثانوي والجامعي.. صحيح أن بعض أشكال الفلسفة تتخلل بعض المواد الدراسية كالفيزياء والرياضيات والاجتماع والآداب... إلخ، إلا أنها كمنهج معرفي مستقل مفقودة في مناهج الدراسة..
نحن في حاجة إلى مادة دراسية في الفلسفة تضيء عقول أبنائنا!!
|