شغلت بهاجس الوظيفة أو شُغِلَ هو بي قبل أن أُنهي دراستي الجامعية في أمريكا في أواخر الستينيات الميلادية، شأني في ذلك شأن كلّ شاب يوشك أن يضع قدمه على عتبة الحياة العملية. لم يكن مبعثُ ذلك الهاجس ندرةَ الوظائف الحكومية المتاحة لخريجي الجامعات (في ذلك العصر والأوان)، فقد كان الخريج الجامعي يومئذٍ (عملةً صعبةً) يتنافسُ في سبيلها المتنافسُون في أكثر من قطاع حكومي، ناهيك بالقطاع الخاص، بالرّغم من تواضع مساحة وشحّ فرص العمل به!
**
* لكن كان هناك أكثر من سبب لانشغالي بهاجس الوظيفة، من بين ذلك الخوفُ والقلقُ من المواجهة الأولى مع الوظيفة التي لم تكن في ذلك الحين الهمّ الوحيد في (أجندة) المستقبل:
(أ) فقد كنتُ أخشى أن (تئد) الوظيفة الحكومية طموحي في استئناف مشواري الأكاديمي لتحصيل درجة الماجستير، وربما ما بعدها في مجال (الإدارة)، وكان مبعث هذا الخوف احتمال تعذر الابتعاث من لدن المرجع الوظيفي مستقبلاً أو تعثره أمام أولويات العمل والتزاماته داخل الإدارة التي سأعمل بها.
(ب) وكنتُ أخشى بدرجة أشد ألا يكون لمحتوى الوظيفة أي صلة موضوعية بالإدارة في مضمونها الأكاديمي والتنموي.
**
(ج) يقابل ذلك كله حرصي الشديد على تكوين (أرضية برجماتية) من الخبرة والتجربة العملية في (إدارة التنمية) بواقعها العملي والتطبيقي في المملكة.. كيلا أبقى أسير دراستي النظرية للإدارة في أمريكا.
**
* من جهة أخرى استطلعت موقف بعض أساتذتي وزملائي في كلية الإدارة بجامعة جنوب كاليفورينا، فكان الرأي شتاتاً بين التشجيع على العودة إلى المملكة أو الاستمرار في الدراسات العليا، بحجة أنني لا أدري بأي حال سأنتهي إليه بعد العودة إلى المملكة، وكان من أبرز من شجعني على العودة البروفسور (ستورم) اقتناعاً منه بأن تفوقي في دراستي الجامعية سيعيدني يوماً إلى أمريكا لاستئناف الدراسة العليا. في حين حبذ بعض زملاء الدراسة الاستمرار حتى إنهاء مرحلة (الماجستير) على الأقّل!
**
واستجابةً لهذا الهاجس بشقيه، طويل الأجل وقريبه، شرعت في مراسلة معهد الإدارة العامة في الرياض، أعرض الرغبة في الانضمام إليه بعد الفوز بالشهادة الجامعية، وكنت بذلك أمني النفس بالحسنيين:
أ- الفوز بالوظيفة (نصف الأكاديمية) في المعهد، وما تعنيه لي من ثقة وتطلّع نحو المستقبل، الى جانب أنه يلتقي على ضفافها (النظريّ) و(العملي) فيما يخص إدارة التنمية في المملكة، ومن ثم يتيح لي فرصة بناء القاعدة المعلوماتية و(البرجماتية) المنشودة عن الإدارة في المملكة، ويجعل التحصيل ل(الماجستير) أَثْرَى مردوداً.
**
ب- ان لدى معهد الإدارة خطة طموحة وموضوعية لتنمية موارده البشرية، عبر تيسير الابتعاث لمن يتوسم فيه المصلحة والقدرة من بين العاملين به، وخاصة القطاع الأكاديمي، للحصول على درجتي (الماجستير).. والدكتوراه، وقدرت وقتئذ تقديراً أن فرصتي للابتعاث بعد عامين أو نحوهما من لدن معهد الإدارة تكاد تكون أمراً مقضياً، بشرط أن أتأهل عملياً ومهنياً لذلك، وهو ما كنت أطمع فيه!
**
* لم يخبْ ظني في معهد الإدارة، إذ تلقيتُ رسالة جوابية مشجعة من مديره العام آنئذ، معالي الصديق الأستاذ فهد الدغيثر، يعرب فيها عن ترحيب المعهد بانضمامي إليه بعد التخرج، وبدأ بتلك الرسالة العدُّ التنازلي لتخرجي ثم عودتي إلى البلاد، كما أنها أنقذتني من حيرة الاختيار، وفكت (الاشتباك) داخل أروقة نفسي، بين رغبة الاستمرار في الدراسة، وهاجس العودة إلى المملكة. ورغم فرحي بالردّ القادم من أرض الوطن.. إلا أنني كنت في قرارة نفسي أوجس شيئاً من خيفة أن يتعثر مشروعُ العمل في معهد الإدارة لسبب أو لآخر، وتحسباً لهذا الاحتمال، وكيلا تتعثر سفينة العودة إلى أمريكا للدراسة العليا، فقد حرصت على اصطحاب وثيقة قبول رسمي من الجامعة ذاتها التي احتضنتني طالباً للدراسة العليا، وعزز هذا القبول الملحق الثقافي السعودي وقتئذ في أمريكا المربي الفاضل عبدالعزيز المنقور بخطاب تأييد قوي لذلك المسعى.
**
وترتيباً على ما سبق، شددت الرحال إلى المملكة، ووصلت بعد أيام وليالٍ إلى جدة في الهزيع الأول من ذات ليل متدثِّرٍ بأنفاس الصيف، وهناك في مطار جدة.. كانت تنتظرني مفاجأة!
وللحديث صلة |