Saturday 20th November,200411741العددالسبت 8 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

فارِسٌ لَنْ يَتَرجَّل..! فارِسٌ لَنْ يَتَرجَّل..!
ناهد بنت أنور التادفي

جبلٌ لم تهزّه رياح الأعداء، ولكن هزّه قضاء الله، فاختار جوار الرفيق الأعلى شهيداً حياً في جنان الخلد.
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (154) سورة البقرة.
ويترجل الفارس الذي نذر حياته للكفاح والنضال من أجل أشرف قضية يمكن أن يدافع عنها إنسان بروحه وفكره ووقته.
ترجّل أبو عمّار.. رجلٌ عاش في الشتات، ومات في الشتات..
ترجّل الإنسان الدمث النشيط رمز الوفاء والإيثار.
شخصية نادرة في زمنٍ صعب، استطاع أن يكون ربّان سفينة وسط أنواء مختلفة ومتضاربة، كلما أرادوا لها الغرق أو الضياع، أو التمزّق، كان هو الماهر الذي يخرجها بحكمةٍ ورؤية صائبة من وسط العواصف ويأخذها إلى المسار الصحيح.
مقاتلاً من طرازٍ نادر، وسياسياً من طرازٍ نادر، ومتوازناً من طرازٍ نادر، لكنه في كل الأحوال لم يخرج عن منظومة الوطن، ولم يخرج عن فهمه الصحيح لملابسات القضية على أنها ليست إقليمية بل هي مركز انطلاق لفرض الهيمنة ليس على الأرض فقط ولكن على البشر والدين والإنسانية.أربعون عاماً وهو رفيق صباحاتنا، ابتسامته تلوّن أيامنا، ويذكي فينا في الأوقات الصعبة سراج الأمل.
وكان حلمه فلسطين، حياته تلك البزّة العسكرية التي ما فارقت جسده، وشظف العيش تحت تهديد يومي بالقتل والتصفية، وتلك الكوفية الزرقاء التي أصبحت الرمز الباهي للنضال، وتلك الكلمات التي يرددها والتي لا تخرج عن روح القضية، بل هي القضية. ومن أجلها دفع حياته، وارتضى صابراً مصابراً ومرابطاً في سبيل الله والحق سجناً بين أربعة جدران ثلاث سنوات طوال ولا نصير حقّاً يقف إلى جانبه غير إيمانه بحق القضية التي نذر حياته لها، وعندما قضى كانت إرادة الله سبحانه أن يكون أيضاً في شتات البعد، بعيداً عن وطنه وأرضه وناسه، لكنه وإن فارق الحياة الدنيا الفانية، فقد اختار أن يسكن في شغاف القلوب.
فلسطين هي الهدف الذي ما غاب عن تفكيره للحظة، والقدس هي الأمل الذي ما خفت صوته وهو يتردد في ضميره في أي وقتٍ، حتى في أحلك اللحظات حرجاً كان يسلّم الراية إلى شبل فلسطيني، أو زهرة فلسطينية تحمل عنه وعنا الحلم وترفع على أسوار القدس علم فلسطين.كان الصورة التي ما غابت عن أفئدة كل فلسطيني وكل عربي ممثلاً للصدق والتضحية ونكران الذات، الدمث والإنسان، المقاتل العنيد الصلب الذي لا يخاف في الحقِ لومة لائم مهما قست عليه الظروف وأثقلته المواجع، وفي كل مرّة كان يتحدث فيها عن القضية، كانت القدس هي عطر حديثه يردد اسمها ثلاثاً كي يبقى عطرها في صدورنا.
وكان الرمز.. (الختيار.!) ختيار البيت الفلسطيني، وهي الصفة التي تطلق (فلسطينيا) على كبير الأسرة وحكيمها وصاحب القرار فيها، وكان بحق كبير أسرة فلسطين.. والرقم الصعب في أي قرار يفرض من قِبل أعداء أرضه ودينه وقيمه ومبادئه التي هي بالمحصلة أماني الشعب كله.
وهو بشرٌ أيضاً من لحم ودم يخطئ ويصيب، هو الخطأ الذي لا يقع بأي حالٍ تحت أي وصفٍ أو مسمى آخر. ولنا في خواتيم الأعمال خير دليل ومؤشر على صدقها.
فقد حكمت عليه قوى الظلم بالسجن في مربعة صغيرة، دون نظرة رحمة ولا رأفة بشيخٍ مسن ومريض وإنسان، فأمضى فيها ثلاث سنوات لم ير خلالها نور الشمس، ولم يسمع صدى نصير لصوتٍ واحد من هذا العالم الذي ينادي في كل وقتٍ ويتشدق بحضارته وعدله.
عالمٌ ممثلٌ بأقوى قوة عاتية في هذا العصر.. عالمٌ ظالمٌ أسود يخضع إلى هيمنة قوّة غاشمة ظالمة، ورغم ذلك لم يتزحزح جبل الصمود عن مواقفه رغم ما تعرّض له من ضغوط مادية ومعنوية وصلت إلى شخصه ثم إلى حياته.
وأتى حكم ربه بلقائه وهو ثابتٌ على الحقِ، وهو حتى في ساعة الفراق الأبدي ماتخلى عن خط سيره، ووضع بذلك الخط الأحمر الصارم الذي لن يجرؤ أحد على القفز فوقه في مسألتين هما ضمير القضية وأساسها الصلب الذي سيُبنى عليهما كل نصر آت بإذن الله.
لم يفرّط بحقِّ العودةِ لكل فلسطيني هجّر من أرض فلسطين ظلماً وعدواناً..
ولم يتنازل عن الحقِ في أن تكون مدينة القدس بمعالمها الدينية والتاريخية عاصمة دولة فلسطين.
ومن أجل هذا الصمود كان لابد أن يدفع حياته شهيداً في ركب الشهادة.
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169) سورة آل عمران.
ترجّل الفارس. لا ليطويه النسيان، ولكن ليسكن في قلوب أبناء شعبه وأمته، تاركاً جيلاً من المناضلين يواصلون المسير وسط العواصف، ويتناقلون الراية شهيداً وراء شهيد حتى تحقيق النصر ومهما طال الزمن.
وسيذكر التاريخ، وستذكر الأجيال بحروفٍ من نور وعرفان المواقف المبدئية الثابتة التي ما حاد عنها صاحب الكوفية الزرقاء المنقطة، والتي دفع حياته من أجلها.
وداعاً أبا عمّار، ياخير الرجال في زمن الشدّة، وسيأتي اليوم الذي تتحقق فيه أمانيك فينا، يومها أيها ال (ختيار) الرائع، ستحملنا ونحملك إلى ثرى القدس، إلى جانب البيت المقدس الذي حلمت أن تنام في جواره نومتك الأبدية.. يومها فقط سيهدأ هذا الطوفان الصاخب في صدرك شهامةً ونبلاً وصدقاً، ويومها ستضع سلاحك.. وتترجّل.
يرحمك الله يا أبا عمّار، وليجعل من سيرة نضالك المنارة التي يهتدي بها الآتون على خطاك.{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} سورة الأحزاب (23) صدق الله العظيم..

الرياض - فاكس 014803452


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved