الانفراد الأمريكي بالقرار في العالم وترتيب الأوضاع في مختلف أنحائه وفقاً لرؤية أمريكية لا تفسح مجالاً للآخرين ، يجعل بعضاً من هؤلاء الآخرين يتحسسون أوضاعهم ومنهم من كان في الماضي من القوى العظمى ، لأن هذا التوجه الأمريكي قد يمتد إليهم في يوم من الأيام ، ويصبحون هم ذاتهم تحت السطوة الأمريكية ، ولهذا فان إعلان روسيا يوم الأربعاء عن عزمها للارتقاء بنظامها الصاروخي النووي ، ينظر إليه على أنه محاولة جديدة لاستعادة مجد قديم واستباق أجواء الهيمنة الأمريكية ، التي باتت تبسط أجنحتها على أنحاء الكرة الأرضية.
وتبدو روسيا مؤهلة بحكم تاريخها لإحراز الكثير في مجال الأسلحة النووية والفضائية المتطورة ، فهي تملك إرثا غنيا في هذا المجال وتتوفر على تقنيات قد لا تتوفر لغيرها ، ووفقاً للخطط التي افصح عن جانب منها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، فان الأمر يتعلق بإنتاج أسلحة نووية لا تملكها القوى النووية الأخرى ، الأمر الذي قد يحيل البرنامج الذي تفخر به الولايات المتحدة والمسمى الدرع الصاروخي ، الذي تكلف 50 مليار دولار إلى مجرد (خردة) في مواجهة الترسانة الصاروخية الجديدة.
ومن المؤكد أن ما يجري على الساحة الدولية يعزز مثل هذا التوجه الروسي لإيجاد موطئ قدم لدولة كانت (القوة العظمى الأخرى) في يوم من الأيام ، كما أنه من المؤكد أن ما تفكر فيه روسيا من محاولة لاستعادة مجد غابر لا بد وأن يلقى قدراً من القبول في أنحاء أخرى من العالم ، فالانفراد الأمريكي بمصير العالم لا يمكن أن يرضي أية دولة ، لأن أية دولة تشعر بان ذلك سيمس سيادتها بطريقة أو أخرى في يوم من الأيام ، إذا اصطدمت رؤاها أو سياساتها بمصلحة أمريكية هنا أو هناك.
ومن ثم فان العودة إلى العالم الثنائي الأقطاب قد يعيد قدراً من التوازن ، وفي منطقتنا العربية فان ما يجري في فلسطين والعراق يؤكد أهمية الحضور الدولي الجماعي لترتيب الأوضاع بعيداً عن هيمنة القطب الأوحد. فقبل الإعلان الروسي عن تطوير الأسلحة قالت فرنسا إنها تشجع توجها دوليا جماعيا لإطلاق جهد جديد للتسوية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ، ومن الواضح أن الرغبة الفرنسية تأخذ في الاعتبار محاولات الولايات المتحدة فرض حل في المنطقة يعتمد بصفة خاصة على تأييد وجهة النظر الإسرائيلية ، وهو حل أثبتت الوقائع أنه يفتقر إلى الواقعية ، لأنه يتجاوز الحقائق على أرض الواقع ومنها بصفة خاصة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ومهما قيل عن الإعلان الروسي فانه لا يشير على أية حال إلى شرخ في العلاقات الأمريكية - الروسية ، فستظل الولايات المتحدة هي القوة العظمى ولو إلى حين ، لكن ذلك لا ينفي رغبة دولة مثل روسيا للتأثير في مجريات الأحداث ، وبمرور الزمن يتعين على الولايات المتحدة النظر بواقعية إلى ما يجري حولها ، وإسباغ قدر من الموضوعية على سياساتها وإعطاء الاعتبار للدول الأخرى ، خاصة تلك التي تملك إمكانيات الانطلاق في تطوير إمكاناتها بحيث تكون ندا لأمريكا.
|