حين دخلت حيّتني بكلمة عجلى، ثم عادت إلى تقليب الملف الأزرق الذي كان بيدها.. تمعّنت في بياض معطفها وحينما رفعت بصري سطعت فيه ستائر الشرفة، يذكي بياضها ضوء الشمس..
التفت يساراً فلاحت لي ملاءات السرير.. بيضاء كذلك.. أغلقت عيني على حرقة الرجاء: آه لو استطاعت أن تجعل تلافيف رأسي بيضاء نقيّة كهذه الأشياء!
انتبهت على صوتها تسألني عن موضع الألم، أشرت إلى رأسي وأنا أقول:
- هنا يا طبيبة هنا.. شيء منتفخ وثقيل وحاد الألم..
دعتني إلى سرير الكشف.. أدارت على رأسي نظرات فاحصة، ثم قالت:
- لا ارى شيئاً.. قد يكون صغيراً إلى حد أني لا أستطيع رؤيته..
- لا، بل هو كبير ويحتل رأسي كله!
استدارت عائدة إلى مقعدها، وسألتني:
- والأعراض؟
- أشعر دائماً بأني معتلة الروح والبدن، مشحونة بالمعاناة.. مجالس الأنس لم تعد تطربني.. يعتريني خلالها وجوم.. تنقلني عمن فيها نظرات شرود.. حتى كلامي.. كلامي منذ دخل هذا الشيء إلى رأسي، لم يعد يعجب أحداً أو يفهمه أحد..!!
خطّت جملاً متشابكة في آخر ورقات الملف.. ثم قالت:
- سنجري لك فحوصاً دقيقة، وتحليلاً للدم.. لا تخشي شيئاً، كثيراً ما تكون العلل الباطنية صغيرة، ويكون للخيال الخصب دور في تضخيمها..
تمتمت:
- وهل أضناني إلا هو؟!
سألتني:
- منذ متى وأنت تشعرين به؟
- لا أذكر.
- ولِمَ تركته دون علاج؟ كيف صبرت عليه؟!
- ألفته!.. لا تنظري إليّ هكذا عجباً، فهذه هي الحقيقة، وأنا إذا ألفت شيئاً لا أستطيع أن أتخلص منه ولو عذّبني.. صدقيني: إن دخولي عيادتك الآن، خطوة تنازل كبرى، ما خلت يوماً بأني سأقدم عليها ولكني أقدمت الآن في لحظة ألم شديد وأريد إزالته فوراً قبل أن تخف تلك الشدة أو أعتاد عليها فأتراجع..
- ولكن الملف الذي أمامي يقول بأنك تعانين من حالة ضعف عامة ولهذا لا أرى أن تستعجلي الإزالة.. فتح الرأس ليس بالعملية السهلة إنني أقترح أن تأخذي مسكناً لمدة معيّنة، ثم...
قاطعتها:
- فيسكن إلى حين؟ لا.. إنك لا تعلمين شيئاً عن تلك الأوجاع العميقة التي تنبثق منه ولا تريد أن تهدأ ولا تستكين.. أزيليه ولو خسرت بإزالته جزءاً من خلايا عقلي..
- إذن.. أعراض الألم تجاوزت موضعه؟
- نعم.. إن له إشعاعات غامضة يبثها أمام عيني فتخطف بصري ويرحل وراءها طويلاً حتى أخشى ألا يعود.. أظل، إن فتحت عيوني أفتحها على كثير ولا أرى شيئاً.. لا أرى إلا الوهج.. وأن أغلقت جفوني أغلقتها على حريق يكاد يأكلها.. وايضاً.. له طنين غريب يحرّضني على فعل أشياء تشقيني، وتثير سحابة حزن شفيف على وجوه من حولي، تشفق عليّ مما أنا فيه ولا تملك أن تثنيني..!!
أخذت الطبيبة صوراً بالأشعة لزوايا متعددة من رأسي، تأملتها حيناً، ثم رمت بها، وأنزلت النظارة عن عينيها، وواجهتني بصوت حاد: لم أجد أي ورم في رأسك؟!
بهدوء أجبتها: ليس ورماً ما شكوت منه.. ليس ورماً.. إنه حلم كبير.. كبير.
|