لم ولن ينال أي إنسان - مهما كان جنسه أو لونه أو دينه - منزلة أرفع مما أنزله الدين الإسلامي، ومهما نادت الشرائع والقوانين بحقوق الإنسان فلن تُحقق للإنسان حقوقاً كالتي رسمها الدين الإسلامي، لأنه دين عالمي وشريعة عادلة ومنهج سوي، ولا عجب أن يكون كذلك وهو من لدن حكيم عليم، عادل رحيم.
ولم تقتصر الشريعة الإسلامية على إسباغ حقوقها على أهلها المؤمنين - فحسب - بل مما ميّز الشريعة الإسلامية عن غيرها أنها قد أشركت غير المسلمين مع المسلمين في حقوق عدة، لم ينلها الإنسان في دين آخر، ولا في نظم أخرى.
وسنقف حول عدد من الحقوق - والتي استحقها بكونه إنساناً دخل في ذمة المسلمين بصلح أو عهد أو أمان أو بدفع جزية - وقفة موجزة، لتكون للمسلم حاجزاً عن الظلم لهؤلاء المحرومين من نور الهداية:
1- إن من أعظم حقوق هؤلاء هو دعوتهم إلى الإسلام، وبيان محاسن هذا الدين لهم بشتى السبّل والأساليب.
2- حفظ كرامتهم: يقول الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}، فلقد كرّم الله سبحانه وتعالى الإنسان - مسلماً كان أو كافراً - ورفع منزلته وفطره على الحق ورزقه من الطيبات وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
3- المجادلة بالتي هي أحسن: قال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}.
4- عدم سب معتقداتهم: وذلك أنه حين تسُبّ معتقداتهم وتسفه أحلامهم بدون أسلوب إقناعي، بل تهجمي عنيف، فهذا سبيل إلى أن يسبوا الله تعالى ويسبوا الدين الإسلامي، قال تعالى:{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
5- عدم إكراههم على الإسلام: قال تعالى:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وقال سبحانه:{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ }، ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يخيِّر الناس بين الدخول في الإسلام، أو البقاء على دينهم، ولكن بعد أن يعقد معهم عهداً يطمئنون به على دينهم وأعراضهم وأموالهم ولذلك سموا أهل الذمة.
6- ممارسة شرائعه على أرض الإسلام: وكان الخلفاء يوصون قادتهم الذين يرسلونهم للجهاد بذلك، كما جاء في وصية أبي بكر رضي الله عنه لأسامة بن زيد:( إني موصيك بعشر: لا تقتلنّ امرأة، ولا صبيا، ولا كبيراً هرما، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرنّ شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلاً، ولا تحرّقنه، ولا تغلّوا، ولا تجنوا، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في صوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له)، وجاء في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل إيليا (القدس): (وهذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود).
7- عدم إلزامهم بشريعة الإسلام، فلا يلزمون دفع الزكاة والجهاد مع المسلمين، كما يسمح لهم بإقامة حياتهم الاجتماعية الخاصة على تشريعاتهم كما في الزواج والطلاق ونحو ذلك..(وفي العقوبات قرر الفقهاء أن الحدود لا تقام عليهم إلا فيما يعتقدون تحريمه كالسرقة والزنى، لا فيما يعتقدون حله كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير) (29) ومن هنا سجل التاريخ لأهل الذمة محاكم يحتكمون إليها في بلاد المسلمين وإن شاءوا احتكموا إلى محاكم المسلمين.
8- حفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم: أوجب الإسلام على أهله أن يحفظوا لغير المسلمين - أهل الذمة - دماءهم وأعراضهم وأموالهم، وعدم انتهاكها إلا بسبب شرعي، قال - صلى الله عليه وسلم - من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) رواه البخاري. وقال - صلى الله عليه وسلم -:( من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) وفي رواية (ألا من ظلم معاهدا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة)، أما في الحرب معهم - الجهاد في سبيل الله - فلا تقوم إلا لأسباب معروفة يقررها إجماع علماء المسلمين.
9- المعاملة الحسنة: قال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ}، وكان عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يحسن إلى جيرانه، والذي كان منهم يهودياً، وكان يعطيه من الأضحية، فدهش لذلك غلامه! فسأله عن ذلك، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
والمعاملة بالخلق الحسن لا تعني الذلة، أو مجاراتهم في دينهم، أو السكوت عن دعوتهم إلى الإسلام.. لا بل معاملتهم المعاملة الطيبة والإحسان بلا تعد على شرع الله عز وجل، ومن أعظم الخلق الحسن معهم، ودعوتهم إلى الحق.
10- عدم ظلمهم: قال - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا)، عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.. الحديث)، ومن المحزن أن ترى بعض المسلمين قد ظلم من تحت يده من العمالة والموظفين بحجة أنهم ليسوا مسلمين، وهذا فضلا أنه ظلم وأكلُ باطل فهو صدُّ عن الإسلام، وتشويه صورة الإسلام في أذهان غير المسلمين.
( وهذه الحقوق ليست للوافدين - أهل الذمة - من غير المسلمين فحسب، بل هي ايضا لمن استجار بالمسلمين من غيرهم، فله الأمان والحماية وحق الرعاية، كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}، وحق الإجارة في الإسلام مشاع بين المسلمين وليس لفئة مخصصة منهم، بل هو كما روى أمير المؤمنين علي بين أبي طالب، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( ذمة المسلمين تتكافأ واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا) رواه البخاري. وقال - صلى الله عليه وسلم -:(.. ويجبر على المسلمين أدناهم)، ولذلك حين قالت الصحابية أم هانئ رضي الله عنها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فلان بن هبيرة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ).
والجدير بالذكر في هذا الباب هو خصوصية جزيرة العرب واستثنائها لبعض هذه الحقوق، وذلك أنها أشرف البقاع، ومهد الإسلام، وقاعدته وعاصمته.
عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:( لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: آخر ما عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتُرك بجزيرة العرب دينان)، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يجتمع في جزيرة العرب دينان).
ولنا في هذا الموضوع المهم نقاط:
- أنه على حُكَّام الجزيرة منع أي دور للعبادة غير المساجد، وألا تسمح بالمجاهرة بالأديان الأخرى، نظراً إلى خصوصية موقعها، وهذا ما يظهر في المملكة العربية السعودية ولله الحمد والمنّة.
- على التجّار عدم استقدام الكفار إلا عند الحاجة الماسة وعدم توفر البديل المسلم، يقول الشيخ ابن باز- رحمه الله -: فعلى المسلمين ألا يستقدموا الكفار، بل يستقدمون المسلمين، إلا إذا احتاج ولي الأمر لاستقدامهم للضرورة لبعض الأعمال، فليكن ذلك وقت الضرورة ثم يرجعون إلى بلادهم.
- الخطاب في أحاديث إخراج الكفار من جزيرة العرب لكل مسؤول ووالٍٍ على أمر من أمور المسلمين في هذه الجزيرة كل على قدر استطاعته، فالمدير في المؤسسة عليه ألا يستقدم الكفّار، وصاحب المصنع، والمزارع، وغيرهم.. كل في مجاله، وترجع المسؤولية العظمى للحكام والذين بأيديهم الحل والعقد.
- إذا كان كل مسؤول عما يملك وبقدر استطاعته، فليس لأحد إذا لم يستطع إخراج الكفار أو ليس من اختصاصهم، إيذاء هؤلاء الكفار أو قتلهم أو التعرض لمساكنهم أو التعرض لمن استقدمهم، لاحتمال وجود الضرورة لذلك.
- في الحديث (.. أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وبذلك يتّبين أن المقصود الإخراج وليس القتل والتعنيف.
- الإسلام رحمة فلا يدعو للعنف مع الكفار، والإسلام خلق حسن فلا يدعو لإساءة الأدب معهم أو تنفيرهم، بل الشريعة تدعو لدعوتهم بالتعامل والخلق والابتسامة والكتاب والشريط وبكل وسيلة، بدون مداهنة أو مذّلة.
- يجب الحرص - ما أمكن - على عدم تولية الكفار على شيء من أسرار المسلمين.
|