وكأنني أقترف ذنباً أشعر أنه لا بد بداية من ذكر تحفظي الشديد على الكتابة عن كل من هم في مواقع السلطة دون استثناء حتى عندما يصيرون خارجها أو في ذمة الله وذلك لسببين على الأقل: أحدهما أنّ ما يهم الكاتب - الكاتبة في الطرح أو التناول للمواضيع هو المواقف لا الأشخاص. والسبب الآخر, يرجع في نظري إلى ما في الكتابة عن أي من أصحاب المقاليد من مضار بسمعة الكاتب مهما حاول عدم الانحياز. هذا بالإضافة إلى المحاذير الحقيقية التي قد تجرها مثل هذه الكتابة على مصداقية الكاتب و موضوعيته وإن طلب الحياد. فهل أنجح في الاختبار وقد رأيت أن أخترق تلك القاعدة التي طالما قررتها لنفسي بأن أسمح لها بالكتابة عن غياب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية؟.
كنتُ طالبة صغيرة كمعظم أبناء وبنات جيلي من السعوديين بالمملكة والعرب في مواقع أخرى من الوطن العربي في تلك الحقبة التاريخية المتأرجحة بين أدبيات وتفجع صدمة هزيمة حزيران 67 م , وبين زهو حرب رمضان - أكتوبر 73م والقراءات التنبؤية المتذبذبة لما سيتبعها عندما بدأ يلفت أنظارنا اسم ياسر عرفات.
وكانت المرة الأولى التي نراه فيها وجهاً لوجه ليصبح حضوره فيما بعد ببدلته العسكرية وكوفيته أو حطته الفلسطينية المرقطة بالأسود وشارة النصر التي يرفعها رمزاً لحضور القضية الفلسطينية في ضمائرنا الغضة حينها، هي تلك المرة التي بزغ فيها كنجم سياسي حين قال (جئت أحمل غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي). وكان ذلك أثناء إلقائه لأول خطاب يلقى بمقر الأمم المتحدة بنيويورك باسم منظمة التحرير الفلسطينية وباسم شعب فلسطين المحتلة، ليقر بعده لفلسطين موقع المراقب في عضوية المنظمة الدولية. وفي تقديري أنه بموت السيد محمد الحسيني غير المعروف تقريباً إلا باسم ياسر عرفات يسدل الستار على حقبة ما يمكن أن يسمى بحقبة (الزعامات الشعبية) في التاريخ العربي للقرن العشرين. ومع أن الوطن العربي قد مرّ عليه عدد من القيادات الذين عقدوا لأنفسهم أو عقدت لهم الظروف أو مجتمعاتهم لواء الزعامة، فإنّ ياسر عرفات يعتبر واحداً من الندرة الذين حصلوا على هذا اللقب باستحقاق ليس كمجرد لقب ولكن كموقع استمده أول ما استمده من خارج السلطة بمعناها المصطلحي الضيق. هذا دون أن نعتقد بأنّ تلك الزعامة كانت تقوم على أيديولوجية أو فكر معين بقدر ما كانت تقوم على فكرة استرجاع حق مسلوب والمطالبة بذلك والإلحاف فيه بكل الوسائل المشروعة والمتاحة، بما جعل تلك الأساليب لا تخلو من المناورات والمراوغة بل والانتهازية في بعض الأحيان. وبهذا فإنّ سيرة الرجل ودون تحجيم تلك الأخطاء الجسيمة التي ارتكب بعضها في حق شعبه ودون مشورته أو الرجوع إليه خاصة اتفاقية أوسلو وتنازلاتها المذلة, وهيمنته الأبوية على السلطة، تظل في موقع لا ينفصل كما قال كاتب آخر من نفس الجيل على ما يبدو عن سياق مسيرة النضال الفلسطيني تاريخياً ومجتمعياً وثقافة. ففي تلك المرحلة التاريخية من أوج المقاومة الفلسطينية كانت القضية التي كادت تمحى تحت مسمى مسألة لاجئين بحاجة إلى حضور يرأب فراغ الغياب من 48م سنة النكبة إلى 74م عام ذلك الخطاب بالأمم المتحدة. فكان لها ذلك بما انتزعه من اعتراف دولي بحقها المشروع في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وبحقها في تقرير المصير، وكذلك الاعتراف بمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
كان مد المقاومة الفلسطينية التي أطلت برأسها معلنة عن إرادة الشعب العربي الفلسطيني في النضال من خلال معركة الكرامة عام 68م بحاجة أيضا إلى رأب اللحمة بين فلسطينيي الداخل الذين كاد يبتلعهم الاحتلال الصهيوني إما بالتذويب في هوية المحتل أو بالتهميش والتجاهل، وبين فلسطينيي المنافي العربية والأجنبية ومخيمات اللاجئين. فكانت منظمة التحرير المظلة التي بدأت تحت سقفها عملية لمّ الشمل بمعناه الرمزي والفعلي معاً، وبغض النظر عن القبول أو الإعراض الذي لقيه ذلك الرجل من الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وعن الكره أو الحب له، وعن خفة أو ثقل طينته، فقد كان رجل المهمات والملمات والنجات (survival) وسط ذلك التعقيد المركب من شبكة العلاقات المشربكة التي كان عليه أن يتعامل معها على امتداد الفترة الطويلة لوجوده على رأس السلطة الفلسطينية. فعلى صعيد العلاقات الفلسطينية الفلسطينية كان عليه أن يتعامل مع بناها المركبة وتراكمات تأثيرات تشتت الشعب الفلسطيني على تلك العلاقة، خاصة في حالات التباس الهوية مع التمتع بحساسية قصوى للحفاظ على الوحدة الوطنية في إطار تعدد الفصائل السياسية لمنظمة التحرير وأجنحتها العسكرية. وعلى صعيد العلاقات العربية العربية كان المطلوب منه الحفاظ على علاقة (مستقلة) و(متداخلة) معها بما فيها من اختلافات في نظمها السياسية وبما بينها من نزاعات وانقسامات وبما يربطها من علاقات سياسية ومالية متذبذبة حيناً ومساومة حيناً آخر سواء ببعضها البعض أو بمنظمة التحرير. وعلى صعيد ثالث كان هناك مهمة اتخاذ موقف مستقل ولو استقلالاً نسبياً من سلم العلاقات الدولية سواء في زمن الاستقطاب - مرحلة الحرب الباردة بين القطبين السوفيتي والأمريكي، أو في المرحلة الحاضرة من السيطرة الأمريكية المنفردة على العلاقات الدولية. وكان عليه أن يدير خطوط وخيوط كل تلك العلائق المربكة في المواجهة الصعبة مع عدو شرس يقيم مشروعه الوجودي وليس السياسي وحسب على التصفية الجسدية والمعنوية للشعب الذي يحتل أرضه، حيث لم يقم الكيان الصهيوني إلاّ على الأساس التعصبي والتوسعي لنظام الدولة العبرية السياسي في الاحتلال والمحو.
وهذا ما يجعل الفراغ السياسي الذي يتركه رحيل ياسر عرفات مؤشراً رمزياً مثله مثل حياته للمسيرة الكفاحية للشعب الفلسطيني ببطولاتها وكبواتها وبسرابه ومائه. فهل تستطيع القوى الفلسطينية اليوم أن تجعل من ذلك الرحيل نقطة تحوُّل نحو مرحلة نضالية جديدة تتأسس على الوحدة الفلسطينية وعلى التعدد السياسي الديموقراطي وعلى عدم تقديم أي تنازلات مجانية منفردة قد - لا سمح الله - تخون دماء الشهداء وتخذل التاريخ المشرف لهذه القضية الوطنية والإنسانية العادلة؟. لقد تابعتُ فيلماً وثائقياً بعنوان حلم تحت الحصار، فكان فيه مشاهد حارقة من أيلول الأسود بالأردن إلى حصار عرفات الأخير في مربع صغير ببناية القلعة حيث كان سجيناً لذلك الحصار مدة ثلاث سنوات يأكل وينام ويدير اجتماعاته ويستقبل ضيوفه الدوليين محاطاً بأكياس الرمل إلى يوم مغادرته رام الله.
وكذلك احتوى الفيلم على مشاهد قتلى مخيم تل الزعتر والاجتياح الإسرائيلي لبيروت وخروج المقاومة الفلسطينية إلى تونس واليمن وتفحُّم الجثث في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وكفر قاسم وقبية وعدد من سجالات اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر وعمان وسواهما من العواصم العربية المضيفة. كما كان فيه مشاهد من انتفاضة أطفال الحجارة في الثمانينات والتسعينات ومشاهد من انتفاضة الأقصى عام 2001م ومشاهد الاجتثاث والتجريف والإفناء لعملية الجدار الواقي وعملية أيام الندم وصور من قصائد محمود درويش وسميح القاسم وموسيقى خلفية لمارسيل خليفة، فكنت كأني أشاهد مقاطع من عمر جيلي وعمري. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|