Wednesday 17th November,200411738العددالاربعاء 5 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

مركاز مركاز
حكايات الصبي
حسين علي حسين

(3)
يذكر الصبي، وهو يتحرك في طرقات مدينته الحجرية، أن الحياة في مدينته يسودها الرواء، فالأرض ترشها قرب الماء أو الجرادل التنكية، كل دكان أو منزل أو سوق يرشه أهله بالماء البارد، ليأتي الغروب على هذه الطرقات المثخنة من حرارة الشمس، وقد تحولت إلى واحة مليئة بالهواء الرطب، ليأتي مدفع الإفطار الذي يشمل صوته المدوي كل بقعة في المدينة، وقد تحولت الطرقات الحجرية إلى بقع صامتة، خالية من الناس والأصوات، لكن المارون على عجل عبر تلك الطرقات، لا يعدمون من ينادي عليهم، أو يقطع عليهم طريقهم، ليشاركوهم لقمة الإفطار، بحيث لا يصل الواحد منهم إلى مقره، إلا وقد ابتلت عروقه وذهب ظمأه، تلك صورة مشرقة لذلك الزمن، الذي قد لا يتكرر كثيراً، مع هذه المسيرة المحمومة نحو المزيد من ماديات الحياة، ترى أين من يفتح داره الآن بعد الغروب مباشرة ليدخله كل ضائع أو عابر سبيل، لا يجد سفرة طعام عامرة، بأطيب الأكل والمشروبات؟ في الماضي فقط كان يحدث ذلك كثيراً!! لم تكن الأرزاق وافرة، لكن القناعة كانت تبسط ظلالها المباركة على كافة القلوب، فالتمرة تقسم عن حب، وصحن الأرز تلتف حوله العديد من الأيدي، وكل يد تأخذ نصيبها، فتحس بالشبع، وإن لم تحس، فالماء الزلال المبخر بالعود والند، كفيل بسد غائلة الجوع والعطش، أما إذا جاء المساء فإن الحياة تدب بسرعة متناهية في كافة الأحياء، فهناك من يفتح سرداقاً يقدم من خلاله بعض ألوان اللهو البريء، الذي يعين الناس على السهر، لكي لا يفوتهم أداء صلاة الفجر في وقتها، ولكيلا يفوت بعضهم واجب إيقاظ النائمين لتناول السحور أو الصلاة، كان الجميع يشكلون أسرة واحدة، قلبها واحد، ويدها واحدة، حتى الأحاسيس والأمنيات كانت مشتركة بين الجميع، فلا توجد تلك التطلعات نحو كل ما هو غير مفيد وغير مجد، كان كل شيء موظفاً في هذا الشهر للعبادة والخير، فالذي بينه وبين صديق أو قريب أو جار سوء في التفاهم، فإن زيارة إلى منزله كفيلة بعودة الصفاء إلى النفوس، كان شهر رمضان فرصة لغسل القلوب من الصدأ والتعب، أكثر منه فرصة للأكل والشرب والملابس الجديدة المطلوبة في هذا الشهر وفي بقية الشهور، ومع ذلك فقد كان الصبي يفرح فرحاً شديداً وهو يتابع تفاصيل انجاز سرواله النسلة أو مراحل شراء المداس التلي وطاقية القصب، لكنه لم يكن يدري لماذا تخلو شوارع مدينته الحجرية، حالما تأتي ظهيرة أول يوم من أيام العيد لكأن الناس تعبوا من التجوال على المنازل والأزقة، جولة حافلة بالزيارات وتناول الحلوى والقهوة، وآن لهم ان يرتاحوا ليتأهبوا لأيام جديدة، بعد شهر كامل من الصوم والسهر!!
(4)
يترقب رمضان لأن فيه المهلبية والسمبوسك وبائع البليلة الذي يجوب أزقتنا الطينية مع حلول الظلام، وكنا نعرفه عندما يطردنا الأهل إلى مقدمة الدار، ومع كل منا طبق كنافة، أو إناء شوربة معقودة بالقمح واللحم والشحم، وكان كل طفل يخرج من منزله، سعيداً بما أعطاه والداه، حيث يرفع بالصوت في الأرجاء الضيقة (طليعة، طلعتني من بيتي!!) وهكذا يضع كل طفل إناءه لتغوص الأيدي معاً في كافة الأطعمة، أطعمة الأطفال الميسورين والفقراء على حد سواء، وما هي إلا دقائق حتى ترتوي الأرض الطينية ببقايا الأكل والحلويات!! بعد هذه الطليعة أو قبلها بقليل يكون معلق (الأتاريك) قد بدأ جولته في تعليق (الأتاريك) في بعض الزوايا لنبدأ لعب (البربر والكيت والبرجوة) وفي الطرف الآخر تكون تجمعات نسوة الحارة في أحاديث لا تنتهي إلا بعد العشاء، حيث يخلد الجميع للنوم الذي لا يوقظهم منه إلا المسحراتي الذي يجوب أزقة الحارة بحمارته الضئيلة الحجم وصوته الرقيق الهادي يتناهى إلينا عبر الرواشين، يا نايم وحد الدايم.. رمضان كريم!!
وفي المساء كانت للأطفال جلساتهم وللنساء جلساتهن وللرجال الدوريات أو الديوانيات التي غالباً ما تتلى فيها بعد قراءة القرآن، سيرة حمزة البهلوان ورأس الغول وعنتر، ومع هذه السير تقرقر النراجيل والأصوات المؤيدة والشاجبة لبعض حوادث هذه السير الشعبية.
(5)
لماذا كان رمضان هو (أبو الشورباء والقدحان)؟ أخذت أقلب هذه العبارة التي كنا نرددها ونحن صغار عند قدوم الشهر الفضيل لأصل إلى معناها ومرماها فلم أجد مصداقاً على ذلك، إلا أن القمح الذي نصنع منه (الشورباء) هو أبرز الأشياء، ويأتي بعده ما يصب في (القدحان) أو الكؤوس وهو الشراب، فلم تكن العصيرات الطازجة معروفة على نطاق شعبي، لكن شراب التوت الذي كان يأتينا في قزايز ثم يخلط بالماء والسكر، كان أبرز هذه الشربة، ولا يحتفى به إلا في رمضان، ربما لأنه يطفئ العطش، وربما لأنه أقل العادة شرب الماء في الأيام العادية بعد الأكل وإلى جانب شراب التوت كانت بعض البيوتات تستخدم قمر الدين مرة شراباً ومرة أكله كانت مشهورة يطلق عليها (الدبيازة)، كل هذه الأمور الآن أصبحت على الهامش، شربة القمح أصبح بجانبها أصناف لا حصر لها من الشورباء، وعصير التوت وقمر الدين حل محلها العصيرات والأشربة المتنوعة الطازجة.
كانت الفاقة تجعل تكرار طبق شوربة القمح أو عصير التوت أو القمر الدين أشياء لا تمل، كان منظراً جميلاً في حارتنا أن تجتمع النسوة في باحة الزقاق قبل رمضان بأيام معدودات، وأمام كل واحدة رحاة حجرية لطحن القمح، ثم نسفه ونشره في الشمس، وفي رمضان صباحاً أو مساء كانت كل سيدة تضع القمح المجروش في إناء وقد غمر بالماء استعداداً لصنع شوربة الغد، وفي باب (المصري) وسوق الفلتية كان ثمة ما لا حصر له من النسوة الأفريقيات اللاتي يقفن أمام مهاريس كبيرة مليئة بالقمح يعملن ذلك (للحبابة) الذين يبيعونه جاهزاً للقادرين الذين يجدون من يجهز لهم طعامهم والكادحين الذين يجهزون بأنفسهم إفطارهم.
(6)
المسحراتي أبو صلاح رجل رقيق الصوت، كان يأتي من أعالي المدينة المنورة في مساءات رمضان على حمارته الهزيلة، ليس معه طبلة ولا طار، لكن صوته الناعم، كان يتسلل إلى كافة البيوت الطينية المتلاصقة، كان يلف الحارة ذات الشوارع الضيقة والمتعرجة، المليئة ب(أخنان) الدجاج والأغنام، كيف يعرف أبو صلاح طريقه إلى كافة أرجاء الحارة، والظلام الحالك يلف كل شيء؟ هل فانوس أبو وطواط الصغير الخابئ الضوء الذي يحمله معه، قادر على إنارة كافة المسالك؟ خاصة وأن هذا المسحراتي القادم تواً من الحقول كان ضعيف البصر، كبير السن، يركب حمارة ضئيلة وضعيفة، تلك أمور لم أفكر فيها، لكن الذي كنت أفكر فيه لماذا يقوم ذلك الرجل بإيقاظ الناس دون أن يتقاضى أجراً؟ إنه الصفاء والإيمان يحرك أمثال ذلك الرجل البسيط، الذي يرسل صوته مع الأذان الأول للسحور: يانايم وحد الدايم!، أما يوم العيد فإن هذا المسحراتي كان يأتي الحارة مبكراً، وقد ارتدى حلة جديدة ليمر على بيوت الحارة بيتاً بيتاً، يقدم تهانيه بالعيد، ويلم الهدايا من القادرين على تقديمها، ولم تكن تتجاوز هذه الهدايا قطع القماش الجديدة والحلوى وبعض القطع النقدية الصغيرة.
كانت هذه الشخصية تدهشني، وكنت أتوق وبأحلام طفولية، أن أشاركه التجوال مساء، أسمع صوته، وأسمع الأدعية التي يرسلها الصائمون له من خلف النوافذ الخشبية والرواشين، لكن الأحلام لا تتحقق دائماً وبالذات عندما تحلم أن تكون مسحراتياً تجوب الأزقة شهراً كاملاً، أجرتك الدعاء وقطع النقود الصغيرة!!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved