قضى الله أمره جل وعلا، ولكل أجل كتاب، ولا نملك أمام مصيبة الموت إلا القول {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }. قضى ياسر عرفات (القدوة) في مسارب ومسارات النضال والكفاح من أجل فلسطين الأرض المقدسة التي بارك الله حولها وأسرى بنبي الإسلام وإمام دعوته الخالدة التالدة لا لم تبلَ ولم تحتج لمجدد. هذا المسار توالت عليه قوافل شرفاء الأمة من أيام الوثيقة العمرية التي أعطاها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى صلح صلاح الدين، وحتى اليوم. كل جيل كان له طرائق وأساليب في النضال حربياً وسياسياً وفكرياً أمام قوى استكبار طامعة ظالمة، ما خرجت عن مصالح حتى وإن تغلفت بالدين وادعاء القتال في سبيل الله.
لقد مر تاريخ فلسطين عبر أطوار التاريخ البشري بمحطات ما كانت الفوارق بينها جد كبيرة لا في التوجهات ولا الغايات. جوهر جل هذا هو الصراع على أرض مقدسة فيها كنيسة المهد وقبلة الإسلام الأولى وثالث الحرمين ثم حائط مبكى، لم يغب التسامح بين ديانات السماء إلا بعد أن قادت زعامات التطرف قوافل الكراهية والقتل والتدمير؟؟مات محمد ياسر عرفات الزعيم العربي القدوة الفذ، مخلفاً ميراثاً ضخماً وحسابات أضخم! مات القدوة وقد خلف ميراث الشتات إلى الثبات. قاتل وحارب وحاور وناور من أجل إنهاء شتات الأهل والعشيرة في فلسطين، ووقف على أرض رباط إلى يوم الدين.
أليس هذا ميراثاً وارثاً تتقاسمه الأجيال التي وجدت لها كياناً دستورياً أشرق على العالم وأشرق حلوق الظلمة. لقد ترك حسابات لها معادلات ودلالات قياسية تعرف نخب ورموز النضال ضد القهر والغطرسة والإذلال أن أرقامها السرية ليست في المصارف لكنها في المعارف والعقول التي سوف تنمي ارث الرجل القدوة، من خلال استثمار مسارات دربه الذي لم يكن فيه (زهوة) اكثر من حب الأنثى الجميلة أرضاً وأماً وابنة.
مات ياسر مهندس النفط الذي ترك في بواكير شبابه العمل في حقول نفط الكويت، زاهداً وراغباً في نعيم الحياة والعيش الوثير، قاد ثلة من الأبطال في زمن الانكسار الفلسطيني في مرحلة ما بعد هزيمة القهر والضياع التي سلمت فلسطين عام 1948م، ليس بالهزيمة العسكرية، بل بالهزيمة النفسية التي برزت فيها خيبات زعامات العرب وخديعة قوى استكبار عولمي ذكي؟
جاء ياسر (قدوة) في الانتقال بكفاح فلسطين الذي تاه بين ثورية وجدت فلسطين إيقاعاً يسبق كل عمل لسحق الكرامة الآدمية، إذلال الشعوب، وعداء لأمم الأرض واستعداء لذوي القربى، وبين زعامات فلسطينية استخدم بعضها لإضفاء شرعية الوجود لكيانات ما كان لها أن تعين أو تعان. انتقل الرجل بالكفاح (بفتح) مراكز النضال فخلق في فلسطين الإنسان همة وجذوة الوقوف على أرض رباط فتح، ان تم فيه النصر وإلا كان عكس الحروف مسار إلى الحتف.. كان هذا الفتح ثمرة في خلق وإيجاد كوادر فلسطينية حملت السلاح، سلاح الدروع، وسلاح الفكر الجسور في بناء العقول. مضى الرجل القدوة حاملاً كوفية عرب الشمال لتكون رمزاً خالداً أمام أمم الأرض، فيها بياض الأمل وسواد الوقائع والنقم حتى باتت كوفية العربي القدوة رمزاً للمناضلين في جل أرجاء الكون الأرضي، بات زينة للرجل وحلية للنساء. لم الرجل القدوة (زهوة) النصر الذي قاده إلى مرابع الكون حاملاً بيرق فلسطين خفاقاً على ساحات الأمم وسفارات الدول. هنا قاد الرجل القدوة وأيقظ الهمم وجمع القمم لتكون فلسطين دائماً على جدول الأعمال وفي مخيال وفكر الأجيال في العالم.
تعثر الرجل في مسارات الكفاح والنضال، لكنه ما قبل الهزيمة والاستسلام، ولا الضغوط والجحود، فقد بات يحمل بندقية للثأر، متمسكاً بغصن الزيتون مشعلَ ضوء وقوة وضياء، رمز سلام لشجعان، لا استسلام خور وخذلان! قاتل في الأغوار مع الأردنيين والسعوديين والعراقيين ومغاوير فلسطين ومجاهدي العرب في معركة (الكرامة) جيوشاً نظامية ومحتسبين لله. خانه الأدنى الذي هو وده وسالمته الأباعد، وما رأى في ذلك عجباً.
قاد الرجل ياسر عرفات القدوة طلائع النضال السياسي والفكري والاجتماعي، فكان قدوة. قاد تأسيس بناء مؤسسات دستورية الديموقراطية الفلسطينية قدوة لما كان مؤملاً أن يكون في بلاد العرب التي نمت ونعمت بالقرار والاستقرار، لقد مارس الرجل القائد القدوة دور القيادة والإدارة مهنة في الحرب والسياسة، فجاء إلى الوجود برلمان منتخب تمثلت فيه أطياف أهلنا في فلسطين، تتحكم في السياسات وتحكم بالدستور، وتحتكم إلى أغلبية الصوت والحضور.
تكالبت على ياسر عرفات الزعيم الرمز قوى ماكرة كثيرة الأطياف والألوان من ذوي القربى وذوي النكر والاستنكار من الذين يرون انهم مرابع ومراتع للديموقراطية؟؟كان ياسر الزعيم القدوة، رجل موقف، وقف في وجه الأعاصير، جبل هزته الريح وهوت به لكن الله سلم، وقلب المؤمن دليله، ما حمل على أحد حتى في ساعات العسرة. صحيح انه ربما طبق مقولة تشرشل (في سبيل النصر اتحالف مع الشيطان) تنبيهاً لا معتقداً، من أجل أن يقول ان في بني عمكم رماح أيها العرب.
أيها الزعيم الرجل القدوة، كم كانت (زهوة) الحياة على محياك وأنت تغادر السجن العولمي في رباط فتح رام الله، إلى عاصمة النور والتنوير باريس، رغم كل سمات الموت التي كان العالم يراك فيها. لكن قدر الله حل وعادت الروح إلى خالقها مطمئنة إن شاء الله، رحمك الله أيها الرمز القدوة؟
لقد شهدت أرض مصر كبيرة العرب وحاملة همومها يفاع الرجل القدوة، وكانت نبع العلم ثم الظهير في ساحات النضال والكفاح من اجل فلسطين، لقد أبلى جند مصر بلاء الأبطال الشجعان منذ أكثر من نصف قرن في ساحات الجهاد في غزة ورفح وخان يونس واسدود والحليقات وبيرون اسحاق والمجدل وبيت طيما وبيت حانون وعلى المنطار وكوكبة ودير سنيد، حين كانت جبهة القتال الجنوبية التي شهدت تشابك الأيادي والأرواح مع جند الجيش السعودي البطل والسوداني البطل فكانت ملاحم من البطولات، رغم ما حل من هزيمة لم تكن خور عزيمة ولا زهوة استسلام. كل هذا تم وياسر عرفات الرجل القدوة ما زال مثل أجيال زمن تلك النكبة يافعاً، لكنه دون شك يستذكر ويسمع ما كان يجري من أعمال من أهل السياسة في فلسطين وغيرها من بلاد العرب. حتى أذن الله بفتح في الفهم والوعي والإدراك من وجوب النهوض من خلال أجيال تناضل من أجل العودة بالوعي بالقضية إلى ميادين التاريخ وعقول الأجيال العربية والفلسطينية بالذات.
مات الرجل القدوة، وفي مدامع الرجال في أرجاء العالم العربي والإسلامي والإنساني حرقة، ليس على الفرقة واللوعة، بل على غياب رجل فتح وحتف قدوة.مات أبو عمار والعالم في حال (زهوة) وتعاطف لم يسبق له مثيل مع رجل في مثل مواقف المحن والإحن التي خاضها ياسر عرفات القدوةمات الرجل، لكن مواقف الشرفاء لم تمت فهاهي فرنسا الحرة، تمارس القيم والمثل الإنسانية الرفيعة وتمارس سلوك المتحضرين في وداعها الشعبي والرسمي الراقي لجسد الزعيم الفلسطيني العربي المسلم القدوة. ولا نملك سوى تقديم الشكر والتقدير والامتنان للشعب الفرنسي العظيم على هذا العمل والسلوك الراقي.
أما مصر، فقدرها أنها كبيرة العرب، لن تغيب عن الساحة مهما كانت أساليب السياسة، ولعل في وقفتها الكريمة التي قامت بها واجباً قومياً وأخلاقياً ما يعزز الثقة بأنها أهل لدعم رباط الفتح في كل آن وحين.
لقد حضنت مصر مولد ونشأة وتعليم الرجل القدوة وحضنت جسده وتقبلت فيه العزاء ولا عزاء في العظماء أمثال ياسر عرفات. شكرنا لمصر ليس منة، ولكنه شكر حسن ظن ومظنة.نحن في بلاد القبلة والاستقبال في السعودية، لم نجد ارفع من أن ترفع من الحرمين الشريفين آيات القرآن الكريم ترحماً وتشفعاً.
أيها الراحل العظيم ياسر عرفات..
كثر هم الذين خونوك، والذين شككوا حتى في معتقدك، لكن قدرك أنك كنت كبيراً في الحياة وكذا في مماتك.لقد جاء تشييع العالم لك رسالة سلام إلى كل الأمم والشعوب، وربما سيأتي قريباً بحول الله زهرة من فلسطين أو صبي يعلق العلم الفلسطيني على مآذن القدس.
أيها الراحل العظيم..
لقد تركت رفاق نضال، وتركت لهم مؤسسات دستورية، وهم ولا شك سيعملون على تحقيق كل ما رسخته من قيم كبيرة وعظيمة، وكما قال شاعرنا العربي:
إذا مات سيد قام سيد
رحمك الله أيها الراحل الرمز، والعزاء لنا أمة جهاد ورباط.عزاء لنساء فلسطين أمهات وبنات النضال والرباط.
عزاء لشعب فلسطين شعب الجبارين.
عزاء (لزهوة) ياسر عرفات القدوة.
عزاء لسهى الطويل أم (الزهوة) والاصطبار العظيم على فقد العزوة والسند والقدوة.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
(*)باحث ومستشار إعلامي
|