Tuesday 16th November,200411737العددالثلاثاء 4 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات ..! 2-2 مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات ..! 2-2
د. حسن الهويمل

ولقد يكون من الأهم أن نشير إلى ما تتداوله المشاهد من نقص في أهلية المؤسسات، وهو نقص يحال إما: إلى أنظمتها، أو إلى تنفيذها، وقلّ أن يحال إلى سوء التعامل معها أو سوء فهمها. ولربما يكون لذلك بعض الصدق أو كله، وقد يكون من باب تقاذف الكرة، والتخلي عن المسؤولية، فما عهدنا أحداً يحتمل الاعتراف بالخطأ. ولو جنحنا إلى التفصيل، وجدل التنصل من المسؤولية، ورد كل قول إلى مصدره لبعدت علينا الشقة، وفوتنا على أنفسنا ما نحن بصدد الحديث عنه. وما أردنا في حديثنا هذا استنزاف طاقاتنا في المماحكات عن ظواهر لسنا معنيين بها فيما نقول. ومع هذا العدول الوقتي فإن المتابع الناصح الواعي لا يكون خِبَّاً ولا يخدعه الخبُّ. إن هناك تقصيراً لا يماري فيه إلا فضولي، وهناك شيئاً من الارتباك لا يستبينه إلا المتماس، وهناك نقصاً في الكفاءات لا يكتوي به إلا ذوو الحاجات، ولكن هذا كله لا يبرر النقص الكبير في (ثقافة المؤسسات)، وهذا النقص فيما أرى رأس كل خطيئة. ولو استطعنا تلافيه، لأمكنت السيطرة على البواقي، إذ ستكون المواجهة بين المؤسسة وإنسانها مواجهة حضارية، تقوِّم الاعوجاج، ولا تصدع العلاقة.
ومع هذا أو ذاك فإن تمثُّل ثقافة أي نظام تمثُّلاً منتجاً يعني فهمه فهماً حقيقياً وممارسة التفاعل معه، تفاعلاً يمده بالقوة والثبات والعطاء. ومعالجتنا ل(ثقافة المؤسسات) لا تفرض علينا النقد والتقويم، فهدفنا هنا منصب على نقص ثقافة المستفيد لا على تقصير المفيد، ومرادنا التوفيق بين المؤسسة والمقصود بخدمتها.
وفَقْد الثقافة قد لا يرتبط بالنقص ولا بالتقصير، ولا ينشئه الرفض ولا الاستياء، إذ ربما لا يكون بين الطرفين أيُّ خلاف في المبادئ، أو اختلاف في وجهات النظر، ومع ذلك لا يكون بينهما انسجامٌ ولا تفاعل. وحين نفتش عن السبب، نجده نتاتج فَقْد ل(ثقافة المؤسسة). وحاجتنا الملحة لا تستدعي التزكية ولا الإدانة. إذ همُّنا الآلي، يحركه حرصنا على توفير آلية التفاعل المثمر مع كل مؤسسة، أريد لها أن تخدم طائفة من المجتمع. وعندما يكون الاعتزال ناتج ضعف في أداء المؤسسة، أو ناتج خللٍ في نظامها، فإن لذلك شأناً آخر. ومجال حديثنا حول القطيعة الناتجة عن قصور في الفهم أو خطأ في المفهوم.
ولن تتحقق جدوى أيُّ مؤسسة إلا بالتنسيق بين المنتج والمتلقي، واستيعاب كل طرف للآخر: استيعاب أداء، واستيعاب فهم. وحين نعدل عن تحديد سمة المؤسسة ومجالها، فليس ذلك استغناءً ولا استخفافاً، ولكنه انشغال بالمفضول، بوصفه مجهزاً للفاضل. كما أننا نركز على الخلل الواقع، نتيجة ضعف التبادل المعرفي والأدائي بين طرفي المهمة. وليس بالضرورة أن يكون العزوف ناتج الطعن في أهلية المؤسسة، أو التناقض معها مبدئياً، أو تقصير المؤسسة في توصيل المعلومة المرتبطة بشكل العلاقة وأسلوب أدائها. إننا نحمل المواطن قسطاً من المسؤولية، فهو قد لا يبالي في تلقي المعلومة المنظمة للتواصل والتفاعل، وإذا تلقاها قد لا يتمثلها. وسأضرب مثلاً بعلاقة المواطن ب(البنوك) بوصفها مؤسسات لها ثقافتها وأسلوب التعامل معها. لم لا يكون هناك ارتباك ولا تهميش من أحد الطرفين للآخر؟ مع ان (البنوك) لا تملك سلطة المؤسسات الغائبة أو المهمشة، علماً أن الذين يقفون بمعزل عن تلك المؤسسات، قد لا يشكُّون في سلامة مقاصدها، ولا في نزاهة منازعها، ولكنهم يفتقرون إلى مغريات التعامل، وتقنية التواصل، ومعرفة الأهمية. وهذا ما يفعله قطاع (البنوك)، وقد لا تفعله بعض المؤسسات.
وإذ يكون من المهم استباق الحديث عن (التأسيس الثقافي) فإن الأهم النظر في تفعيل الممارسة من خلال المؤسسات المنوط بها استقطاب القادرين على الأداء، والمستحقين لناتج الأداء. فالمؤسسة فاعلة من خلال أطيافها، ومنتجة لحاجة هذه الأطياف.
وإذا لم يكن هناك توازن في تداول (الحقوق) و(الواجبات)، فإن المؤسسة تفقد من أهلية وجودها وفاعلية أدائها بقدر اختلال التوازن. والحديث عن تكافؤ الفرص بين (الحق) و(الواجب) والتوازن بين (الأخذ) و(العطاء) يفضي بنا الى ما يمكن تسميته ب(ثقافة الثقافة)، وهو المنظور الاجتماعي للثقافة ف(علماء الاجتماع) حين تقحموا معمعة الإشكالية المأزومة لمفهوم الثقافة، التقطوها من جانب (التمثل والممارسة). ذلك أن الثقافة: معرفة وحذق وممارسة. ولسنا معنيين بنوع المعرفة، ولا بالقدر المدْرَك يكون المدْرِكُ مثقفاً، وإنما يعنينا سلوك المثقف على ضوء مكتسبه المعرفي، تمشياً مع رؤية (ابن مسعود) رضي الله عنه المتمثلة: بالحفظ والفهم والعمل.
و(العلاقات العامة) طرفٌ أهم في السلوك. ولهذا عول (علماء الاجتماع) على التفعيل السلوكي للثقافة. وهل تنتفع الأمة من علمائها ومفكريها ومثقفيها، إذا لم تُفعَّل إمكانياتهم، وتترجم إلى عمل، وما لم يبدُ أثرها في سلوك الفرد؟ وكأن لسان حال المؤسسات يقول:
(وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا.. ودون الذي أمَّلت منك حجاب)
وكل هذه الإشارات المتناثرة، تصب فيما نقصده ب(ثقافة المؤسسات). وجماع أمر هذه الثقافة: أن يَفْعل المعنيُّ من خلال المؤسسة، بعد استكناه المسطور من نظامها، وأن يفعل من أجلها ، بوصفها منطلق الأداء المنظم، وأن لا يسبقها بالفعل ولا بالقول، إلا حين يُجمع أهل الشأن على عجزها عن مسايرته، أو حين تخالف إيقاعها المطلوب، وحينذٍ لا بد من وضع آلية لأسلوب المخالفة، إذ لا يجوز ترك الأمر لسائر الأمزجة والرغبات. ذلك أن الحياة لا تكون سوية إلا بالنظام وتحديد السلطات. ولا بد والحالة تلك من دخول المعمار، وإصلاحه من الداخل، وكل عمل خارجه أحسبه ك(مسجد الضرار)، لا يزيد الأمور إلاّ تعقيداً على أن لكل حدث حديث، ولا مجال للإطلاقات والتعميمات والنمطيات الرتيبة.
ولقد كانت المبادرات الفردية، وذهابُ كل راءٍ بما يرى سبباً في وهن الأداء وتسيبه، وتشتت جهود المؤسسة. ولو ضربنا مثلاً ب(المؤسسات الدينية)، ك(الإفتاء) و(الحسبة) أو ب(المؤسسات الأدبية) ك(الأندية الأدبية) و(الجمعيات)، أو ب(المؤسسات الوطنية) ك(مركز الحوار) و(حقوق الإنسان) لوجدنا أن مدار استدبار البعض لها: إما على الجهل أو الاستغناء أو الشك في المصداقية أو الاضطراب المفهومي. ولا أشك أن حسم مثل هذه العوائق رهين الإلمام بالثقافة الغائبة، وتحمل مرارة الاعتراف بالواقع، فادعاء الصحة مع استشراء المرض مؤذن بالهلاك الناجز. وممارسة مهمات المؤسسات خارج إطارها من قبل أفراد مجتهدين، أو مستبدين، سيؤدي في النهاية الى التخذيل والوقوع في الفوضى. وقد يؤدي الاستبداد الى الازدواجية أو الصدام. ودعك من المجازفين والخارجين على السلطة، فلأولئك شأن آخر، ليس هذا مجاله. ومكمن إشكالية المؤسسات ان كل فرد يجانس فعله فعلها، يرى أنه أمة وحده، وأن أطره ضمن العمل الجماعي المشترك، يعني إفشال توهمه الأممي. وحتى لو ترك يخوض في أوهامه، ما كان منه ان يعمل بمعزل عن أداء المؤسسة، بحيث لا يؤثر على مجال أدائها، وإنما سيكون منه سلقٌ وإزلاقٌ، ونزعٌ للثقة، وطعنٌ في الأهلية. الأمر الذي يعيق حركة المنشأة، ويغري من بداخلها على ان ينفضوا من حولها، وقد تتحول تلك المخالفة المقدور على تلافيها بالإجراء العملي الى ظاهرة عصية. فكل إنسان يود أن يكون أمة واحدة، يستبد بآرائه وإرادته . وليس من مقتضيات الثقافة أن يكون المقصود بخدمة المنشأة إمَّعة، لا يفرق بين السلب والإيجاب، ولا بين النجاح والإخفاق، ولا أن يكون كشاعر غزيه في غوايتها ورشدها، فالثقافة لا تكتمل حتى تتوفر الندية، وحرية القول المسؤول، والشفافية، واحتمال المساءلة. وحتى تُحفظ الحقوق، وتُؤدى الواجبات. ولكل فعل أو قولٍ ضوابطه وأهله.
إذاً ثقافة المؤسسات ذات شعب ثلاث:
- الفهمُ أولاً.
- والعملُ ثانياً.
- والوفاءُ بالعقود ثالثاً.
وكل ذلك تحكمه ضوابط وأدبيات وآليات للتعامل مع المؤسسات، متى فُقدت، أفضى ذلك إلى فقد الهيبة والاحترام، ومؤدى ذلك إعاقة الأداء، وتعطيل الحركة. وخلل التواصل غير المقصود، يتطلب التجسير والتيسير، وإزالة العوائق. وما منيت القيم بمثل ما يعرض لها من انكفاء على الذات. وظواهر الاعتزال التي قد لا يلقي لها البعض بالاً، تؤدي في النهاية إلى فقد المؤسسات رسالاتها. وفي النهاية تتحول إلى هياكل خاوية، وتصبح شكليات غير فاعلة، والدولة مجموعة من الأناسي والمؤسسات المحكوم تفاعلها بعقد مكتوب أو معهود. و(ثقافة المؤسسات) إضافة إلى ما سبق تعني:
- الفهم الدقيق لرسالتها، والثقة التامة بها، وممارسة العمل من خلالها، والاستفادة من خدماتها، والعمل على ترشيد أدائها، وتقويم عوجها بالحكمة والجدل الأحسن، وتقديم المشورة لها, ومصداقية التعامل معها، ومن خلالها.
- التفاعل الإيجابي بين كوادرها والمقصودين بخدمتها، وتكافؤ الفرص، وتداول المسؤولية، وتفادي الأثرة والإقصاء، وحدية المفهوم والأداء.
- إتاحة الفرصة لآلية المؤسسة، لكي تعمل في مجالها، وتهيئة الأجواء الملائمة لمزيد من العطاء.
- مرونة التعليمات، وقابلية التطور، وسرعة التكيف مع المتغيرات.
- إطراح التنافس حول سدة المسؤولية، والفراغ للأداء السليم، والتنافس في الإنتاج لا في السيطرة.
- الدقة في تحديد مسؤولياتها، ومدى قدراتها، تفادياً لتحميلها ما لا تحتمل وإدانتها بمسؤولية غيرها.
إن أمامنا ثلاثة مفاهيم:
- ثقافة المؤسسات.
- والتأسيس الثقافي.
- ومأسسة الثقافة.
ولكل مفهوم مقاصده ومقتضياته. واهتمامنا منصب على (ثقافة المؤسسات) وإن كان التأسيس والمأسسة من الأهمية بمكان.
- ف(ثقافة المؤسسات) أن يعي المعني ما يراد به، وما يراد له، وما يراد منه من خلال تلك المؤسسة، وأن يستشعر أهليتها في ممارسة حقها، وأن يتحرج من الخروج عليها.. متى التزمت بنظامها، ونهضت بمسؤوليتها.
- و(التأسيس الثقافي) يعني استكمال البنية التحتية للثقافة السائدة المهيمنة، بحيث يستوعب المنتمي ثوابت الحضارة التي ينتمي إليها، ويلم بيقينياتها، ويعرف نواقضها، ثم ينطلق في آفاق المعرفة الإنسانية, كما النحلة، يلتقط من حضارات الغير بندية وتكافؤ ما لا تقوم الحياة الكريمة إلا به.
- أما (مأسسة الثقافة) فيعني تحول الحراك الثقافي الطليق إلى مرجعية إدارية تنظم تحركه، وترود له، وترسم مساره، وتضبط إيقاعه. وإذ نتفق مع المفهومين السالفين: (ثقافة المؤسسات)، و(التأسيس الثقافي). فإننا لا نجد حرجاً من قبول التحفظ على (مأسسة الثقافة)، ممن يخشون ضمورها، حينما يؤطرها نظام، ويحكمها إجراء. ولما لم نكن معنيين بقضايا المفاضلة، فإننا لن نستعرض وجهات النظر، وإن لم نجد بأساً من التفاوت في القبول بين المطلق والمشروط.
وكل الذي يشغلنا ما نعايشه من غياب معيب ل(ثقافة المؤسسات)، بين كافة المنتفعين والمعنيين، وما نراه من تعرض بعض المؤسسات للفشل الذريع، لا لعلة كامنة في نظامها، ولا لنقص في كفاءة مسؤوليها، ولكن لانقطاع المقصودين بخدمتها، واشتغالهم خارج أروقتها للأسباب التي أشرنا إليها سلفاً. وإذا كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره، فإن العمل من خلال الشيء محكوم بثقافة إجراءاته وتعليماته، ويوم أن نفقه (ثقافة المؤسسات): معرفة وإجراء، تنحل أعقد المشاكل استحكاماً، وتزول أقوى العقبات رسوخاً، وتُقبل الأطياف للفعل والتفاعل تحت قبة المؤسسة. أقول ما تقرؤون، وعندي كل الثقة بأن في إمكاننا تخطي العقبات، فنحن أمة تمتلك مقومات العيش الكريم، وحاضرها مليء بالفرص، مستقبلها يفيض بالوعود الباسمة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved