نقرأ أحياناً أو نسمع من يقول إن أنظمة الخدمة المدنية قديمة ومعقدة وغير متطورة، وإذا سألته عن موقع ذلك التجمد أو التعقيد أو غير المتطور في الأنظمة تجده أحياناً ينطلق من مصلحة وظيفية خاصة له لم تتحقق لتعارض مصلحته مع القاعدة النظامية التي تعالجها، وأحياناً تراه يطالب بزيادة المزايا المادية الموجودة بالأنظمة أو تفاجأ بأن ليس لديه إجابة على سؤالك.
وهذه المقولة التي يطلقها البعض عن تأخر الأنظمة وعدم تطورها واتسامها بالتعقيد ليست جديدة بل لها جذور قديمة، ويمكن أن يكون في تلك المقولة في جذورها القديمة بعض الصحة عندما كانت الأنظمة الوظيفية في بلادنا مستقاة في بعض أجزاء منها من غير البيئة الاجتماعية بحكم الاعتماد على الخبرات غير الوطنية في وضع تلك الأنظمة وذلك لقلة المؤهلين في مجال الأنظمة من السعوديين في ذلك الوقت إضافة إلى الضعف العام لمستوى الأنظمة في منطقتنا الإقليمية آنذاك.
إلا أنه على أثر الجهود التي بذلت منذ سنة 1379هـ عندما استقدمت المملكة خبراء من البنك الدولي للإنشاء والتعمير ومؤسسة فورد الأمريكية لدراسة الأوضاع الاقتصادية والإدارية، فقد بدأ حال الأنظمة والإدارة يتغير في بلادنا نحو الأفضل والتطور فقد أوصت بعثة البنك الدولي المشار إليه بإنشاء جهاز مركزي للتخطيط هو (المجلس الأعلى للتخطيط) الذي أنشئ بالمرسوم الملكي رقم (50) في 17-7-1380هـ، وتطوير الفاعلية الإدارية بإعادة تنظيم الجهاز الإداري للدولة، وإنشاء معهد الإدارة العامة الذي تم بالمرسوم الملكي رقم (93) في 14-10-1380هـ وإرسال بعثات لخارج المملكة للتخصص في مجال الإدارة.. وأما مؤسسة فورد فقد أوصت بتركيز عمليات شؤون الموظفين في جهاز واحد وهو (ديوان الموظفين العام) وزارة الخدمة المدنية حالياً، وإعداد نظام جديد للموظفين وتبسيط إجراءات وطرق العمل وإنشاء إدارة مركزية للتنظيم والإدارة ووحدات مماثلة في الأجهزة الحكومية واقتراح نظام جديد للميزانية والحسابات ونظام آخر للإجراءات الحسابية، وتطوير البرامج التدريبية التي يقدمها معهد الإدارة العامة، وتطوير ديوان المراقبة العامة.
إذاً فإن الوضع الإداري والتنظيمي في المملكة بعد هذه الدراسات تغير للأفضل، فقد تم تنفيذ الكثير من التوصيات (سالفة الذكر) ومنها صدور نظام الموظفين العام في سنة 1391هـ بالمرسوم الملكي رقم (م-5) في 1-2-1391هـ ولوائحه التنفيذية الصادرة بالأمر السامي رقم (14120-3) في 12- 8-1391هـ، حيث يعتبر هذا النظام ولوائحه التنفيذية اللذين صدرا من واقع البيئة السعودية بداية الانطلاق نحو التطور والتحديث في أنظمة الموظفين في المملكة لما يتضمناه من مبادئ وأفكار جديدة منها:
- اعتباره الجدارة هي الأساس في شغل الوظائف العامة والجدارة هي مجموعة من العناصر والصفات تتعلق بالكفاءة الفنية والإدارية والعلمية والعملية والانضباط في العمل وحسن التعامل والسلوك ونحو ذلك.
- مطالبته بتصنيف الوظائف حيث بدأ في ظل هذا النظام التصنيف الحقيقي للوظائف فقد تم تقسيم الوظائف العامة إلى ست مجموعات وتقسيم كل مجموعة إلى العديد من المجموعات النوعية ومجموعات الفئات.
- إسناد مهمة التوظيف لديوان الموظفين (وزارة الخدمة المدنية) من أجل توحيد الإجراءات وضمان الحيدة والنزاهة.
- وضع قواعد جديدة لترقية الموظفين وتكليف وزارة الخدمة المدنية بالمشاركة في إجراءات الترقية.
- إقرار العديد من المزايا المادية من بدلات ومكافآت وتعويضات مما لم يرد في الأنظمة السابقة.
- تسهيل موضوع تمتع الموظف بإجازته وحثه على ذلك للفائدة التي تعود عليه وعلى جهة عمله من ذلك.
وفي سنة 1397هـ حدث نقلة تطويرية أخرى في مجال الأنظمة والموظفين والأجهزة ذات العلاقة حيث تم استحداث مجلس الخدمة المدنية بالمرسوم الملكي رقم (م -48) في 10-7-1397هـ وصدور العديد من الأنظمة واللوائح الجديدة المتعلقة بحقوق وواجبات الموظفين ومنها نظام الخدمة المدنية ولائحة منسوبي الجامعات ولائحة الوظائف التعليمية ولائحة الوظائف الصحية.. وإضافة لذلك فقد قام مجلس الخدمة المدنية بإجراء العديد من التعديلات عليها بهدف إعطائها المزيد من التطوير أو إلغاء ما قد ورد بها من سلبيات، فقد أصدر المجلس منذ إنشائه في سنة 1397هـ ما يزيد عن (2000) قرار الغالبية منها يتسم بالطابع التنظيمي، فهل بعد كل ذلك توصف الأنظمة الوظيفية في المملكة بالجمود والتعقيد، أعتقد أن الإجابة المنطقية والمتعقلة تقول بعكس ذلك بعد أن رأينا كيف توالي صدور الأنظمة واللوائح والتعديلات المستمرة التي تتم عليها من قبل مجلس الخدمة المدنية منذ أن بدئ في الإصلاح الوظيفي والإداري على أثر الدراسات التي أعدها البنك الدولي ومؤسسة فورد سنة 1379هـ وهو أمر ينفي أيضاً مقولة التعقيد في الأنظمة إلا إذا كان المقصود بالتعقيد حرص الأنظمة على أن يتم تعيين الخريجين وفقاً لقواعد ومعايير محددة تحدد الأولويات بينهم.. وكون الترقيات تتم حسب قواعد واضحة تكفل ترقية ذوي الكفاءة، وكون الأنظمة قد حددت شروط وضوابط منح المزايا المادية من بدلات ومكافآت وتعويضات وترشيد صرف هذه المزايا إذا تطلب الأمر ذلك، وحرص الأنظمة على أن يتمتع الموظف بإجازته السنوية وقصر مدة تعويضه عنها في حدود (90) يوماً.. وهي أمور لا تمت بأي صلة لمظاهر التعقيد بل هي تتمشى مع مبادئ الجدارة والمساواة والعدالة، إلا أن السلبية التي قد تتراءى للبعض ربما تعود لبعض مظاهر التطبيق مما يعني أن الخلل ليس في الأنظمة بل في عملية التطبيق، وهو أمر يتطلب من الجميع التعاون في سبيل التطبيق السليم للأنظمة ومراعاة مبادئ العدالة والمساواة في تطبيقها وهو الأمر الذي يتمشى مع توجيهات قيادتنا الرشيدة الذين يؤكدون دائماً على ضرورة تطوير الأنظمة واللوائح الوظيفية وقصر المزايا الوظيفية والترقيات التي وردت بها على الموظفين ذوي الكفاءة والجدية والحث على سرعة إنجاز الأعمال والانضباط في الدوام وهو ما يتمشى مع مبادئ وروح الأنظمة.
|