لم يكن ممكناً لمشهد يصوّر بدقة الأثر العميق الذي تركه أبو عمار على غير مستوى، وفي غير ساحة، أكثر من مشهد الجموع المتقاطرة إلى مستشفى بيرسي في ضاحية باريس من أجل الاطمئنان على الرئيس الفلسطيني والصلاة من أجل شفائه.
رأيت هناك فلسطينيين من كل الأجيال وعرباً من الأقطار، وأحراراً من كل الأديان والقارات، وكنت أسمع لغات متنوعة، ولهجات متعددة، لأسال نفسي: من هو هذا الرجل القادر على تحريك كل هذا المشاعر وكل هذه العواطف، وكل هذه الأحاسيس قال لي صديقي جورج غالاواي (النائب البريطاني) الذي حضر خصيصاً من لندن للاطمئنان على صحة الرئيس عرفات: (قبل أربعين عاماً كانت قضية فلسطين متجهة إلى المتحف، وها نحن اليوم نرى العالم كلّه بعيونه وبعدسات كاميراته، ينتظر لحظة بلحظة أخبار صحة رئيس فلسطين).
وخلال الأيام الأربعة التي أمضيتها في باريس، على مقربة من مستشفى أبو عمار وأخباره، استعدت شريطاً من الذكريات امتدّ إلى أربعين عاماً حين تعرفت للمرة الأولى، وأنا الطالب في الجامعة الأمريكية، بهذا (الفدائي) الفلسطيني القادم إلى بيروت حاملاً في يديه البلاغ الأول لقوات العاصفة، وحاملاً في عينيه بريقاً متوهجاً ومن النوع الذي لا يمكن أن ينطفئ بسهولة ورغم كل الصعوبات.
تذكرت أيام الاعتقال في لبنان وسوريا عام 1965 و1966 وكيف هرعنا في الحالتين للإفراج عن هذا (الفدائي) الغامض المثير للجدل في صدق نواياه أو في سلامة أهدافه.
وتذكرت أيام معركة الكرامة في آذار 1968م يوم اتخذ أبو عمار قرار مواجهة العدو، رغم انعدام التكافؤ معه، فإذ بنتائج تلك المعركة تدخل في قاموس البلاغة الثورية تعبير (موازين الإرادات) في مواجهة (موازين القوى).
وتذكرت أياماً، بل أسابيع امضيتها متطوعاً في أغوار الأردن، فإذ بي أصادف هذا القائد مجدداً ينتقل من قاعدة فدائية إلى أخرى، ويشرف على عملية عسكرية في الشونة الشمالية في منتصف الليل، ليذهب بعد ساعتين لاستقبال فدائيين في الكريمة (القطاع الأوسط) وقد عادوا من عبور الشريعة (أي النهر).
ثم تذكرت أيلول الدامي الذي حاول أبو عمار بكل الوسائل أن يحول دونه فلم ينجح، فلا الحلفاء والرفاق كان يقدرون دقة الظرف ولا الآخرون كانوا راغبين في الهدنة بين منطق السلطة والثورة...
بعد ذلك تذكرت أيام المقاومة في لبنان، بكل تألقها وتعثرها، فأشهد للرجل أنه كان دائماً حريصاً على لملمة الجراح، و(ضبضبة) الأوضاع، لكنه أيضاً كان بين نار رفاق لم يقدروا تماماً دقة الظروف، وبين آخرين لم يكونوا مستعدين لحلول وسط انتقالية لا يموت فيها الديب ولا يفنى الغنم، فكم من اتفاق لوقف إطلاق النار كان أبو عمار يصل إليه سرعان ما ينهار على يد متربصين في المتاريس هنا والمتاريس هناك؟
لقد كانت عيون أبو عمار دائماً إلى فلسطين وكان في لقاءاته كلّها يتطلع إلى سعة صدور لبنانية أو عربية تتحمله واخوانه لفترة من الزمن قبل أن يعود ليرفع علم فلسطين ولو على (خيمة في أريحا) كما كان دائماً يقول وأشهد للرجل أيضاً أنه لم يكن فقط مفتوح الباب، على عكس الكثيرين من القادة والمسؤولين، ولم يكن مفتوح القلب في وجّه من عصفت بعلاقاته بهم خلافات دامية أحياناً فحسب، بل كان أيضاً مفتوح العقل لكل نقد أو ملاحظة سرعان ما يسعى لتصحيحها إذا كان ذلك ممكناً فلا أنسى مثلاً أن إحدى روابطنا الأهلية قد علقت على باب مكتبه في (الفاكهاني) يافطة تقول: (نحن مع الثورة الفلسطينية بوجه أعدائها وأخطائها معاً، ولقد استفزت هذه اليافطة بعض حراس أبو عمار من جهاز الـ(17) وأرادوا نزعها، لكن حين وصل الأمر إلى (القائد العام) قال: اتركوها فأنا الذي طلبت أن يذكرنا الناس بأن أخطاءنا كأعدائنا خطر علينا).
ولا أنسى أيضاً كيف جاء إليه في أواخر عام 1978، من يقنعه بأن يتولى جيش التحرير الفلسطيني حراسة المؤسسات والمرافق العامة اللبنانية، في حال إصرار القيادة السورية على سحب قواتها من العاصمة آنئذ، ولم يتكلّف زميلي بشارة مرهج آنئذ، وكنا معاً في زيارة إلى أبو عمار، سوى ملاحظة صغيرة حين قال: (كيف سينظر اللبناني إلى مؤسساته الرسمية بحماية جيش فلسطيني.. انتبه أبو عمار فوراً وقرر صرف النظر عن الموضوع. قد لا تبدو هذه القصص ذات أهمية أمام إنجازات أبو عمار الكبرى في نقل الثورة إلى داخل فلسطين بعد أن حاول الأعداء إغراقها في وحول الخارج، وفي صون الهوية الوطنية لفلسطين بعد محاولات تشويهها، لكنها اليوم ضرورية لتذكير القادة جميعاً، بأن القائد الجيد هو أيضاً المستمع الجيد، وأن القائد الأقوى هو الذي يرى في التراجع عن خطأ ارتكبه أو كاد قوة له لا إضعافاً لهيبته.
قد يقول البعض: إن سر توهج أبو عمار يكمن في القضية الاستثنائية التي يحملها، ولكن السر أيضاً في أن هذه القضية الاستثنائية قيّض لها أن يحملها رجل استثنائي عرف كيف يوازن بين صلابة المبدأ ومرونة الأداء، بين شجاعة الموقف وبين دقة الحساب، بين وطنية القضية وبين عروبتها، بين عروبة القضية وعالميتها، بين المركزية العالية في تنفيذ القرار وبين الديمقراطية الشديدة في اتخاذ القرار.. وبهذا المعنى فقد كان أبو عمار أكثر من قائد ومن رمز ومن مناضل ومن فارس، كان مدرسة كاملة تخرّج القادة والرموز والمناضلين والفرسان، ولا تخشى أن تخرج منها ثغرات وأخطاء وخطايا ما دامت قادرة على التعلّم منها أليست المدرسة هي مكان للتعلّم.. رحم الله أبو عمار.
|