Monday 15th November,200411736العددالأثنين 3 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

حرب الصور حرب الصور
د. عبد الرحمن الحبيب

في خضم ما نراه عبر الفضائيات من جحيم المعارك في العراق.. وحمى الوطيس في الفلوجة، نحتار من يوجع من؟ من يدفع الثمن أكثر إزاء التضحية؟ بل أي الفرقاء يتسلم زمام الصراع؟ الإجابة العامة هذه الأيام، تستند إلى الصورة.. لا على الوقائع الحاصلة فعلاً، فتلك الوقائع أخبار ستنبئنا بها السنوات القادمات بعد أن يُصرم العنب..
في 29 مارس 1991 بعد يومين من انتهاء حرب الخليج الثانية، نشرت صحيفة ليبيراسيون الفرنسية مقالة لجان بودريار بعنوان (حرب الخليج لم تقع)!!. وكان هذا الكاتب (مابعد الحداثي) المثير للجدل نشر مقالة قبل الحرب بيومين في صحيفة الجاردين البريطانية زعم أن الحرب لن تحصل!! لماذا يطرح هذا الكاتب مثل هذا المنطق العجيب العبثي؟ سبب ذلك عند بوديريار أنه من غير الممكن في هذا العصر إعلان الحرب وخوضها، نتيجة أنه لم يعد ممكناً التمييز بين الصور والكلام وواقع الحال. فهناك زخم هائل من الصور التي نراها دون أن نعلم بالأحداث الفعلية لهذه المعارك. بل إن أصحاب القرار يتابعون الأحداث عبر شاشات الفضائيات ويتأثرون بالصور التي يشاهدونها. ومن هنا يمكن القول إن التغطية الإعلامية والصور المنقولة هي التي تصيغ الحرب، بل هي الحرب ذاتها! لأن الانطباعات التي تنشأ منها لا تؤثر في عموم المشاهدين فقط، بل تؤثر في أصحاب القرار أيضا. إنها الصورة المقنع الأقوى والمؤثر الأشد والمسيطر على أذهان المشاهدين.. انها أيقون العولمة الكبرى كما يسميها صبحي حديدي، أو أسطورة العالم المعاصر كما ينعتها عبد السلام بن عبد العالي. الحروب فيها - حسب بودريار- مجرد لعب فيديو عبر سيناريو تخييلي تكون الحقائق فيها آخر المعلومات المتفق عليها، ليتمكن هذا السيناريو التخييلي من المزج بين الحقيقة والمعتقد.. عبر صور زائفة واستراتيجيات الردع النفسي.. حيث يتم اللعب بالحقائق بمزجها بالصور الطارئة.. ليعتلي الزمن الظاهري على الزمن الفعلي.. بل يعتلي الظاهري عموماً على الفعلي عموما.. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال التوافق مع الطرح الساذج لنظرية المؤامرة أو الاعتقاد الشعبي بأن الإعلام يسطر على عقولنا، بقدر ما يعني هل نشاهد المعارك كما هي فعلاً على الفضائيات أم نشاهد صوراً منتقاة منها؟
انه الخبر الزاخر بالمشاهد الفاقعة، إزاء الصورة يعزف المتلقي عن التحليل السياسي المنهجي أو المتعقل، لأن العين هي أشد الحواس تأثراً، فليس من عاين كمن سمع كما قالت العرب، أو صدِّقْ نصف ما ترى ولا تُصدق ما تسمع كما يقول الإنجليز. فالعين، إن صدقت الصورة، لا تحتاج إلى دليل لأنها تشاهد حقيقة مثالية. ولكنها قد تكون حقيقة منبتة عن سياق الأحداث وتاريخها. وهنا تأتي خطورة الصورة لأنها تسيطر على الأحاسيس والمشاعر وتمزجها مع الحالة الذهنية مفضية إلى استنتاج يصعب تغييره. هذا الاستنتاج هو أصلاً انطباع أولي، ونحن ندرك أن الانطباع الأولي كثيراً ما يضلل، عبر التعميم أو تلقي الحدث ناقصاً، والصورة إذا سيطرت على الخبر لا بد أن تعطي معلومة ناقصة. ويبدو المتلقي أكثر انفعالا وتأثراً مع الأحداث المبهرة. ومع الصورة المبهرة لا يصبح لتفاصيل الخبر وسياقاته معنى ذو قيمة.صحيح أن الصورة تعطي الخبر سليماً ناصع الوضوح، لكنها لا تعطي الحقيقة كاملة، لأنها لا تكترث بالحيثيات والمعطيات وسياق الأحداث وما يتداخل معها من صراع المصالح وتناحر الكيانات المختلفة وتاريخها. هنا يغدو خبراً جزئياً مبهراً الصورة فيه أهم واكثر تأثيراً من خبر أساسي باهت الصورة. وهنا تتراجع السياسة كعلم وفن وثقافة، ويتقدم من يشاء في التنظير السياسي مستنداً إلى المشاهد وقليل من الكلام السياسي المبعثر..
الحرب الأمريكية على العراق كانت مسلسلا حربياً من صور مع قليل من الكلام المدسوس، تراها في قناة الجزيرة بمشاهد تخص توجهاتها لجمهور معين وتراها في قناة فوكس على نقيضها، ولا تكاد تسمع إلا ما يؤيد المشاهد المنحازة غير التحليلية. فصاروخ أمريكي يضرب حيَّاً سكنياً، أو عمارة بها صحفيون، يصبح قصفا مدبراً مقصوداً في قناة الجزيرة، ويغدو خطأ في قناة أخرى، ويغيب تماماً في قناة فوكس الأمريكية اليمينية حيث لا ترى إلا التفوق الأمريكي الرحيم دون ضحايا من المدنيين أو الأطفال. إذن، كم من متلقٍ حدد موقفه بناءً على المشاهد المراوغة دون إنصات للتحليل السياسي المنهجي؟
إن طغيان الحالة المشهدية والظهور الباهر للأحداث ينذر بخطورة العزوف عن التحليل السياسي المنهجي.. هنا تموت السياسة وتنتصر الصورة.. هنا نمل التحليل العقلاني ونألف الاستنتاج السطحي عبر المشاهد.. فتغدو الصورة أهم مصدر للمعلومة وتداعياتها، ويتراجع دور الثقافة السياسية وارتباطها مع المعارف الثقافية الأخرى. لذلك اقترح الأنثروبولوجي أبادوراي خمسة أبعاد للتدفّق الثقافي العولمي:(إثنو - مَشاهد)، (ميديا - مَشاهد)، (تكنو - مشاهد)، (تمويل - مشاهد)، و(فكرة - مشاهد).، بحيث تصبح لفظة مشاهد عنصراً مشتركا في خضم التلقي الثقافي. وهذا ما دعا المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه أن يقول:(إذا كان أساس السلطة هو الإقناع، فإن الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصورة يتحكم بالمجتمع كله).
نحن في زمن أصبحت فيه الصورة محتكرة للموضوع، ليس في الجانب السياسي فحسب بل في جميع جوانب الحياة.. إنه زمن الصورة.. وعندما تشب الحرب فهي ربما حرب صور.. إنما المؤلم والمبكي فيها أن ثمة أطفالاً وأبرياءً هم أول ضحايا لعبة الصور الحربية...


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved