في البداية:
في جو عيد الفطر أبتهل إلى الله، سبحانه وتعالى، أن يقبل دعوات من دعاه من المؤمنين المتقين في شهر رمضان الكريم، الذي ودّعنا شاهداً علينا بما قلنا وما عملنا، وودّعناه وفي النفوس ما فيها من مشاعر مختلفة شتى. وأبتهل إليه، جلّ وعلا، أن يمنّ على أمتنا المنكوبة، قادةً وشعوباً، فيوقظ ضمائرها تكفّر عن ذنوب تقصيرها في اتباع أوامره الواضحة بعدم الخضوع إلا له، وهو العلي القدير المعزُّ لمن يشاء والمذلُّ لمن يريد، ولتكفّر عن سيئات أعمالها بعدم مراعاة قول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، وأن المسلمين كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً، وأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
أما بعد:
فإن عنوان المقالة جزء من بيت لأبي الطيّب المتنبي، وهو:
أصخرة أنا؟ ما لي لا تحرّكني
هذي المدام ولا تلك الأغاريد |
والبيت من قصيدة ذلك الشاعر العملاق المشهورة التي مطلعها:
عيدٌ بأيّة حالٍ عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد |
ومناسبة حلول عيد الفطر، الذي أظلّ العالم الإسلامي، داعٍ من الدواعي الموجبة باستخدام ذلك المقطع من البيت المذكور في هذه القصيدة عنواناً للمقالة.
على أن همّ كاتبها - بطبيعة الحال - همٌّ عام بينما كان همُّ الشاعر العملاق مزيجاً بين همٍّ خاص، وهو الأوضح، وهمٍّ عام، وهو الأقل وضوحاً.
وكان من أبيات قصيدة المتنبي:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
وقد بشمن فما تغني العناقيد |
وكان الدافع لغزو ثعالب مصر لكرومها هو الحصول على ما يشبع نهمها من عناقيد عنبها. لكن دافع غزو عاد هذا الزمان (أمريكا) - وهي التي مارست الإرهاب عند نشأتها وعبر مسيرتها التاريخية، وأدمنته في حاضرها، ارتكاباً مباشراً كما يحدث في أفغانستان والعراق، ورعاية لمرتكبيه من الصهاينة في فلسطين المحتلة - للأمة الإسلامية، وبخاصة العرب منها، مزيج بين الطمع في السيطرة على مقدراتها وشعور الكراهية لهويتها ودينها.
وماذا عن نوم نواطير مصر في عهد المتنبي عن ثعالبها ونوم نواطير كيانات أمتنا عن الغزاة لها؟
كان سبب نوم نواطير مصر الكسل أو عدم الاكتراث، وبخاصة أن أشجار الكروم كانت وفيرة، وفي حنطة وادي النيل حينذاك ما يشبع ويغني. أما نوم نواطير كيانات الأمة الإسلامية فيبدو سببه منسجماً مع المثل الشعبي القائل: (أكّال النِّي يوجعه بطنه). ومن هنا فإن الخوف المسيطر على نفوسها دفعها إلى عدم إظهار اليقظة، والظهور بمظهر الغارق في سباته. فلم تعد قادرة على الحركة، بل لم تعد تؤلمها الجراح لموتها الدماغي الذي يزيده مرور الأيام تأصّلاً ورسوخاً.
وكان استغراب المتنبي كونه كالصخرة لا تحركه المدام ولا الأغاريد مفهوماً في ظلّ الجو المحيط به، فهل يمكن أن يقال - في ظلّ فداحة الجرائم التي يرتكبها أعداء أمتنا من الصهاينة والمتصهينين ضد عدد من أوطاننا:
أصخرة نحن بتنا لا يحرّكنا
بطشٌ يمارسه قومٌ مناكيد؟ |
أستغفر الله. فالصخرة قد تتشقّق، فيخرج منها الماء الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض. لكن أين ماء الكرامة والحياء؟ لقد جفّ ذلك الماء خلال العقود الثلاثة الأخيرة لدى كثير من قيادات الأمة السياسية والفكرية والثقافية وما الدليل؟
الدليل، الذي سأبديه باختصار، فيه إجابة عن سؤال وضعه الأستاذ فهمي هويدي عنواناً لمقالته في صحيفة الشرق الأوسط (10-11-2004م) وهو: (لماذا يقف العرب متفرّجين أمام ترتيبات ذبح الفلوجة؟). وكان مما ورد في هذه المقالة الجيدة قوله: (وحده كوفي عنان أبدى تحفّظه واعتراضه على ذبح المدينة، وحذّر من النتائج المترتّبة على العملية).
الدليل: في عام 1979م خرق سفينة الأمة زعيم عُرف، أو لقّب، بالرئيس المؤمن، وذلك بإخراج الكنانة - بكل ثقلها البشري والجغرافي والحضاري - من ميدان المواجهة بين الأمة وعدوّها اللدود من الصهاينة.
وقد ترك هذا الإخراج فراغاً لا يمكن أن يسدّه وجود آخر. وتداعياته واضحة كل الوضوح. وكان من أوائل تلك التداعيات إكساب العدو الصهيوني جرأة دفعته إلى القيام باجتياح لبنان ودخول عاصمته بيروت عام 1982م.
وقد عبّر كاتب هذه السطور عن موقف جيوش الأمة في تلك المناسبة بقوله:
تموج في ساحاتها
جنودها المجنّدة
لكنها لا تقتني
إلا سيوفاً مغمدة
تجريدها عزّ على
أكفّها المقيّدة
متى انتضى مكبّلٌ
بقيده مهنّده؟ |
أجل. آثر القادة الكبار أن تبقى الجيوش التي أنفقت الأمة عليها البلايين من النقود، تدريباً وتسليحاً، متفرّجة على ما يحدث، وإن أطلق بعضهم عبارات تنديد يعلم قبل غيره أنها غير ذات جدوى. وإذا كان ذلك هو موقف القيادات فكيف كانت الحال على المستوى الشعبي؟
لقد اركتبت في ذلك العام مجزرة صبرا وشاتيلا الرهيبة. واختار الشعب العربي من خليجه إلى محيطه أن يكون صخرة لاتتحرّك. في بعض البلدان العربية يضمن الدستور حق القيام بالمظاهرات تعبيراً عن موقف من المواقف.
وفي بعضها نقابات وجمعيات وأحزاب مسموح بها. ومع كل ذلك فإن من المخجل أن المظاهرة الوحيدة التي قامت في المنطقة احتجاجاً على تلك المجزرة كانت تلك التي قام بها اليساريون في فلسطين المحتلة.
نحن أمة أدمنت الخضوع لأعدائها في الوقت الحاضر. والأدلة على ذلك كثيرة جداً. حرب الإبادة التي ارتكبها - وما زال يرتكبها - الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، قادة مقاومة مشروعة وأبرياء من كل الأعمار، لم تحرّك فينا أي شعور ينتج عنه عمل إيجابي، وجرائم الغطرسة الأمريكية التي تنوعت أصنافها في أفغانستان والعراق، لم تدفع أي عاصمة عربية أو إسلامية إلى مقاطعة من ارتكبوا تلك الحرب وهذه الجرائم بل إن مصالح أمريكا لم تمس بأذى في البلدان التي لها مصالح كبيرة فيها رغم كل ما فعلته من إساءة لأمتنا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تمثّلت في دعمها غير المحدود للكيان الصهيوني العنصري في جرائمه المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني.
قد يقول قائل: إنه يوجد من السياسيين العرب، أو ممثّليهم في الدول الغربية، أو الكتاب المتأمريكن، وبخاصة الخليجيون، من يمجّدون احتلال أمريكا لأفغانستان والعراق، ويرون في ذلك تحريراً لهما. فأقول: نعم. يوجد هؤلاء. وهذا هو البلاء المبين، والطابور الخامس، فكرياً أو عملياً، دائماً أخطر من العدو الواضح. لكن مما يثلج الصدر أن الله وعد بنصر من ينصره، وأن التاريخ لا يتردد في وضع المتعاونين مع أعداء أمتهم في مزبلته.
وفي الختام
أعود لأبتهل مرّة أخرى إلى الله سبحانه، أن يحقق لأمتنا أمراً رشدا ينتصر بانتهاجه المخلصون، ويندحر مَنْ لا يريدون بأمتهم إلا ذلاً وهوانا.
|