يطل علينا العيد.. والعيد فرحة تغرد على أغصان القلوب، وابتسامة تشرق على مشارف النفوس، والعيد جسر من المودة تتعانق على متنه الأفئدة..
يطل علينا العيد بعد أن ودعنا شهراً من أفضل الشهور إطلاقاً، ونتمنى ونتطلع ونتشوق ونأمل ونرجو الله العلي القدير أن يُهل هذا الشهر علينا مرةً أخرى سنوات عديدة..
(تُرى ونحن نودعه ونستقبل العيد هل امتلأت قلوبنا أكثر بمخافة الله، وهل سنحافظ أكثر على التسامح والتواصل والصدق والمودة والمحبة والإخلاص لله أولاً، وللمليك والوطن ثانيا) نسأل الله تعالى أن تمتد هذه الأعمال طوال سنوات حياتنا، وألا تتوقف فقط على شهر الخير والغفران، أتدرون لماذا؟؟
لأن السعادة الحقيقية تكمن في صور أفعال المرء الإنسانية المرتبطة بتميزه عن باقي المخلوقات، ولأن الإنسان مميز ناطق، وله غايته السامية في هذه الحياة، والسعادة هي ثمرة التفكير المبدع لكل خير، وهي متاحة لكل فرد إن أرادها، ولا يختص بها أحد دون آخر، ولكن مراتبها ودرجاتها تختلف باختلاف المراتب والدرجات الانسانية لدى الأفراد، ولتمييزهم بين مخافة الله ومعصيته وبين الجميع والقبيح، وبين المودة والنفور، وبين المحبة والكراهية وبين التراحم والتواصل والقطيعة- وبين الفضائل والرذائل، وبين أفعال الخير وأفعال الشر.
فالسعادة الحقيقية إذن تكمن في تمام الإيمان بالله وبالقضاء والقدر خيره وشره وبتحقيق أهداف النجاح، وهي بذلك تقود المرء من النقص إلى الكمال، ومن المرض إلى الصحة ومن الجهل إلى العلم، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن المعصية إلى الطاعة، وها نحن بإطلالة العيد نعيش ضربا من ضروب السعادة لأن العيد هو موسم الفرح والسرور، ففيه يزداد فضله، وتغفر ذنوبنا بأمر الله ويباهي بنا الملائكة قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه).
فالعيد يسمى عيداً (لعود الفرح والمرح فيه) ويقال يسمى عيداً (لكثرة عوائد الله سبحانه وتعالى فيه على عباده).
فالعيد موسم الفرح والابتهاج، وتعم فيه كلمات الدعاء والتهنئة متجلية عالية فوق كل اعتبار (كل عام وأنتم بخير).
تتجلى فيها كل المعاني الأخوية السامية، ففي العيد يتجدد الأمل في النفوس وتشربت الأفراح، ويتردد الصدى، وتقفز التباشير، وتنطلق الزغاريد، وتبدأ سحب التهليل والتكبير نعم (يا ليلة العيد أنستينا، وجددت الأمل فينا يا ليلة العيد).
وها هو الشاعر حسين عرب يقول:
أقبل العيد مستفيض الجلال
مستنير الشروق والآصال
أصبحت من صباحه الناس في
بشرٍ وأمست من ليله في اختيال
التهاني على الشفاه تراجيع
تغنت بفرحة الإقبال
والاماني بين الجوانح خفق
واثب بالرجاء والابتهال
فللعيد لون فرحٍ واحد، نقدمه لأطفالنا وأولادنا وأحفادنا وثمرات قلوبنا وريحان نفوسنا، وعلينا في العيد أن نراعي جيراننا، وإخواننا، والفقراء منا والمحتاجين، وأن نشد على يد الأرامل والأيتام والمرضى وكبار السن والمعاقين والعجزة، أن نشد على أياديهم جميعا وأن نشعر بشعورهم ونخفف من آلامهم ونركض لنجدتهم قال أحدهم:
أيها الموسرون رفقا وعطفا
وحنانا بالبائس المحزون
ربما بات جاركم طاويا جوعا
ويتم وبم تشكون بشم البطون
يتوارى من سوء منظره المزري
ومن حاله الكريه المهين
ليت شعري متى يكون لنا عيد
حقيق برمزه المكنون؟
منشيع الهناء في كل نفس
ويواسي فؤاد كل حزين
فالعيد يا أعزائي مواسم الفرح وجداول الحب والمودة والرحمة.
العيد يا أعزائي ابتسامة الأطفال واختصار لكل العناوين الجميلة والمعاني المشرقة.
فأقدم للجميع من عرب ومسلمين وحكام ومسؤولين ومواطنين عاديين وأخوات لي في اللغة والدم والدين، ولبراعمنا القوالي حبات منثورة من فرائد عقد الجُمان، وقلائد من ذهب إبريز، وباقات من المسك والعنبر، ونفحات من بساتين الزهر تقول للجميع معي (كل عام وأنتم بخير).
قال الشاعر إبراهيم خودة:
جمدت ماعني العيد في أذهاننا
إذ عطل المعنى الكبير جمود
أتراك تأتي بعد صومٍ لعبةً
أبداً حزبك لا أخال يريدُ
العيد فرحة أمةٍ بفلاحها
بعد الكفاح فأين منا العيد
العيد تجسيد لمعنى رائعٍ
نحيا خلال شجونه ونشيدُ
فيا به معنى يكرم بعضنا
بعضا على لمحاته ونفيد
نحيا به معنى يظلل أمة
خفقت عليها من سناه بنود
وبعد :
إنه العيد، والوطن راحة المتعب، والوطن الحر هو العيد بحد ذاته، والعيد بلا وطن نعيش في ربوعه هو عيدٌ بلا فرح لأننا لا نستنشق نسائمه، صحيح ومؤكد أننا نعيش بين أهلنا وإخواننا، ولكن يبقى لعيدنا نحن الفلسطينيين طعم العلقم، ولعيوننا نظرة الهم والحزن رغم الأمل في استرجاع الوطن.. فالعيد في فلسطين دم.. نار.. انتهاك عرض.. انتهاك للمقدسات.. العيد في فلسطين فقد أعزاء في كل لحظة.. بكاء.. دموع.. شهداء.. مرض.. فقر.. عوز.. صراخ.. هدم بيوت.. حرق شجر. حرق قلوب.. نسق آمال.. اغتيالات لشتى أنواع الفرح.. العيد في فلسطين موت الرموز النضالية.. واحداً تلو الآخر.. العيد في فلسطين حداد وتنكيس أعلام وتطلع للمستقبل بعد رحيل قائد لأربع عقود من الزمن كان عنوانا ضخما لشعبٍ وأمة ووطن وأرض.. كان رقما صعبا ومعادلة معقدة حيرت شارون اللعين في فك رموزها، والعيد الحقيقي في فلسطين سيكون بدحر الأعداء الصهاينة من تلك الأراضي المقدسة.. والعيد أن نحرر أنفسنا من الضغائن والحقد والغرور والحسد، والعيد الحقيقي ألا نرمي أمهاتنا وآبائنا في ديار العجزة والمسنين من أجل تحقيق هدف مادي أو حياتي زائل لا محالة..
العيد الحقيقي أن نعرف جيراننا ونساعدهم، أن ننشر الأمن والسلام والاطمئنان في بلادنا..
العيد الحقيقي أن نخلص لله أولا ثم لولاة أمورنا ولأوطاننا ولمن حولنا..
تحية إكبار وإجلال..
وباقة عيد تفوح مسكا من دم الشهداء وأنفاس من تبقى من الأحياء أهديها إلى كل طفل فلسطيني فتح صدره العاري للصهاينة الأنذال، وصاغ من حجارته عقداً يتيه به جبين أمته ويضرب به الغاصبين..
وتحية لكل أم فلسطينية حملت في أحشائها رمزاً من رموز البطولة والإباء في زمن عزت فيه البطولة وشح الآباء.
وتحية لكل أب فلسطيني علم ابنه وابنته معنى الفداء ليزودوا بأرواحهم وأنفسهم عن الأرض والعرض والمقدسات.
وتحية لكل فتاة فلسطين ضمت بشبابها ورمت بفستان زفافها، وشاطرت إخوانها في النضال ملاحم الدفاع عن الأرض الطاهرة.
وتحية لك في قبرك يا (أبو عمار) أيها الشهيد الرمز الذي قضى أربعين عاماً في النضال من أجل فلسطين، وقضى ثلاث سنوات مقيتة من الحصار، وبقي صامداً هذا الجبل الختيار حتى سلم روحه لبارئها.
وعيدنا نحن الفلسطينيين يوم عودتنا بإذن الله.. وكل عام والجميع بخير وعيدكم مبارك.