فورة جديدة لتحركات السلام تصدرها تعهد من الرئيس الأمريكي بالعمل على قيام الدولة الفلسطينية خلال أربع سنوات، وأعقب ذلك الإعلان عن جولة لوزير الخارجية الأمريكي في الأراضي الفلسطينية وإسرائيل قد تشمل بعضاً من دول المنطقة، هذه الإعلانات فضلاً عن الإفصاح عن نوايا أوروبية باتجاه تنشيط جهود السلام تزامنت مع الغياب الكبير للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وفي تلك الإعلانات إشارات واضحة وأخرى متوارية عن علاقة ما بين هذا الغياب والتحركات المزمع القيام بها في سياق لا يخلو من مساس بشخص الرئيس الراحل مثلما كان عليه الحال في الموقف الأمريكي والإسرائيلي منه إبان حصاره في رام الله ..
والسلام مطلوب في كل حين، أما ربطه بغياب عرفات فهو استمرار لمزاعم أمريكية وإسرائيلية تحاول تبرئة إسرائيل من جريمة عرقلة جهود السلام وإلقاء اللوم في ذلك على الراحل عرفات على الرغم من كل الأدلة على أن إسرائيل هي المعوق الأكبر للتسوية وأنها تفعل ذلك بمباركة الولايات المتحدة، وأن الاتهامات تنهال على عرفات لأنه لا يرضخ للمفهوم الإسرائيلي الناقص للتسوية والذي يفترض استمرار السيطرة الإسرائيلية على البلاد والعباد وإلا فإن من يعارض ذلك يعتبر مارقاً وإرهابياً يجب ملاحقته وقتله بتهمة عدم توافقه مع مواصفات ومقاييس إسرائيل المبتسرة للسلام ..
لقد قال العالم كلمته في عرفات وأطنب على جهود الرجل السلمية وعدّد مناقبه، وكانت وفاة عرفات وما تلاها من تشييع له ودفن في وطنه بمثابة استفتاء دولي، خلال التشييع في القاهرة، أظهر المدى البعيد من التقدير الذي يكنه العالم له ولنضاله ولصموده، كما أن مراسم الدفن في رام الله أكدت الارتباط الوثيق بين هذا الشعب وقائده وتلاحمه مع المبادئ التي كان يدافع عنها ..
ووسط هذا الإجماع الوطني والدولي على شخص عرفات كان الصوت النشاز هو الذي يصدر من إسرائيل وبعض متطرفي الإدارة الأمريكية الذين لم يكفوا في غمرة الأحزان عن ترديد أن السلام آتٍ مع غياب عرفات ..
ويخشى أن تكون التحركات الجديدة موصومة بذات روح التشفي التي اتسمت بها تلك التصريحات بينما كان عرفات ينازع الموت وبعد الإعلان عن وفاته ..
وعلى الذين يرددون هذه الترهات إمعان النظر فيما حدث في بحر الأيام القليلة الماضية إزاء موت عرفات الذي أجمع قادة العالم والمنطقة على أنه يشكل مرحلة فاصلة في تاريخ القضية الفلسطينية والمنطقة، كما عليهم التفكر في الانتقال السلس للسلطة الفلسطينية في عملية لم تغب عنها بصمات عرفات حتى وهو ميت، فقد أرسى الرجل إدارة على نمط مؤسساتي يجعل من السهل التعاطي مع مقتضيات التغيير دون التوقف كثيرا عند الأشخاص، ولم يكن تحقق هذا الأمر ممكناً إلا في ظل انسجام شديد بين الرئيس ومساعديه من الوزراء والمستشارين وفي ظل توافق سياسي.
.. فالتسوية التي كانت في ذهن عرفات هي التي جعلت هذه الملايين من أبناء شعبه تلتف حوله وتذرف مر الدموع على رحيله، ولن تجد إسرائيل أو أمريكا من ترمي إليه بفتات التسويات من بين هذه الجموع الهادرة التي خرجت في رام الله لوداع قائدها.
|