Sunday 14th November,200411735العددالأحد 2 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "شعر"

يا صابراً عقدين إلاّ بضعة يا صابراً عقدين إلاّ بضعة
شعر - يحيى السماوي - أستراليا

سعادة الأخ الأديب الأستاذ: خالد المالك - حفظه الله
اسمح لي أن افتح بابك دونما استئذان مسبق، كيما أضع في سنديانة قلبك، باقةً من ورود حديقة قلبي، تهنئة بعيد الفطر المبارك، تقفوها غَيمةٌ حبلى بمطر أمنياتٍ ولا أعذبَ، أسأل عبرها رب العزة والجلاَل، أنْ يجعل من هذا العيد, مسرىً لقوافل لا تنتهي من أفراح تُخضّب مساءاتكم بندى الحبور، وتُثْقل أشجار صباحاتكم بعناقيد الرفاهية والتوفيق، مثلما أسأله سبحانه، أن يجعل من ملائكة لطفه، أوتاداً لخيمة أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله ...
وإذ اهنئك من قلبي، فإنني أهنيْ من خلالك جميع العاملين في بستان الجزيرة الغراء، والمستنشقين عبيرَ أفوافها.
***
لستُ قارىء فنجانٍ، ولا ضاربَ رملٍ يا صاحبي، بقدر ما أزعم (وعساه يقيناً وليس زعماً) أنني قارىء يجيدُ السباحةَ بين أمواج السطور، والركضَ عبر سهوب الكلمات لاصطياد الجميل من مرجان المعاني، والبهيّ من غزلان الشعور، وهذا ما جعلني متيقّناً من أنك شاعر حتى لو ادَّعيت أنك لم تكتب أولى قصائدك بعد !
هذا ما اصطدته خلال أًُولى جولاتي في حقولك وبراريك، أعني: افتتاحياتك العذبة في مجلة الجزيرة وفي صحيفة الجزيرة ؟
أصافحك الآن بقلبي، وأضع بين يديك قصيدةً سبق ونشرتُ بعضاً منها في المجلة العربية قبل نحو عامين، يوم تنفست بعضاً من زفير أمي، ومسحتُ دموعها بشفتي بعد استنشاقي دخان المنافي والمغتربات، أعواماً عديدة، خٌيّل اليّ، أنّ أيامها كانت كالدهور.
لا أزعم أن القصيدة ستنال رضاك، فأنا أضعها بين يديك الآن، فقط، لرغبتي في أن أسقيك كأساً من شجني، ولك الشكر الجزيل. مع بستان من شجر الامتنان وكل عام وأنتم - بإذن الله - على ما أتمناه لكم من حبور ورفاهية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******


أَلْقَيْتُ بين أَحِبَّتي مرساتي
فالآنَ تَبْدَأُ - يا حياةُ - حَياتي
الآن أَبْتَدِىءُ الصِّبا ولو انني
جاوَزْتُ (خمسيناً) من السَنَواتِ
الآن أَخْتَتِمُ البكاءَ بضحكةٍ
تمتدُّ من قلبي إلى حَدَقاتي
الآن يَنْتَقِمُ الحبورُ من الأَسى
ومن اصْطِباري ظامئاً كاساتي
أنا في (السَماوة) ... لنْ أُكَذِّبَ مُقلتي
فالنهرُ و(الجسرُ الحديدُ) هُداتي(1)
وهنا - جِوارَ الجسرِ - كانت قَلْعَةٌ
حَجَريَّةٌ مكشوفةُ الحُجُراتِ
هذا هو (السجنُ القديمُ) ... وَخَلْفَهُ
جِهَةَ (الرُمَيْثَةِ) ساحُ إعْداماتِ
وهناكَ بيتُ أبي ... ولكن لم يَعُدْ
لأبي به ظِلُّ على الشُرُفاتِ
لا يُخْطِىءُ القلبُ الترابَ ... شَمَمْتُهُ
فَتَعَطَّرَتْ بطيبوبِهِ نَبَصاتي
وهناكَ بُستانُ (الإمامي) والذي
عَشِقَتْ نعومةَ طينِهِ خَطَواتي
النخلُ نفسُ النخلِ ... إلاَّ أنه
مُسْتَوْحَشُ الأَعْذاقِ والسَعْفاتِ
لكأنَّ سَعْفَ النخلِ حَبْلُ مشيمةٍ
شُدَّتْ به روحي لطينِ فراتِ

***


أنا في (السماوةِ) ... لا أشكٌّ بما أرى
فَلَقَدْ رأيتُ بأَهلها قَسَماتي
سأصيحُ بالقلبِ الذليلِ: كفى الضنى
فاغلقْ كتابَ الحزنِ والنَكَباتِ
وأنامُ مقروراً يُوَسِّدني الهوى
ريشَ الأماني بعد طولِ أَناةِ
مَرَّتْ عليَّ من السنينَ عِجافُها
ومن الرياحِ الغاضباتِ عَواتي
أَلْقَتْ بأَشْرِعتي إلى حيثُ الندى
جمرٌ يُمرِّغُ باللظى زهراتي
يشكو لساني من جَفافِ بَيانِهِ
في الغُرْبَتَينِ فأَصَحَرَتْ غاباتي
وَحْشِيَّةٌ تلك الهمومُ ... وديعُها
أقسى على قلبي من الطَعَناتِ
أنا ياعراقُ حكايةٌ شرقيَّةٌ
خُطَّتْ على رَمْلٍ بِسَنِّ حَصاةِ
غَرَّبْتُ في أَقْصى الديارِ فَشَرَّقَتْ
روحي .. وَحَسْبُك مُنْتهى غاياتي
مولايَ: كم عصف الزمانُ بمَرْكبي
فَأَغَظْتُ مُزْبِدَ موجِهِ بِثَباتي
ناطَحْتُهُ .. وأنا الكسيحُ - فلم يَنَلْ
من حَزْمِ إيماني وَعَزْمِ قَناتي
واسَتْيتُ حرماني بكوني حَبَّةً
عربيةً من بَيْدَرِ المأساةِ
واللهِ ما خِلْتُ الحياةَ جَديرةً
بالعيشِ إلاّ هذه اللحظاتِ
واسْتَيْقَظ الزمن الجميلُ بمقلتي
من بعدِ أجيالٍ بِكَهْفِ سُباتِ
الله ! ما أحلى العراقَ وإنْ بَدا
مُتَقَرِّحَ الأنهارِ والواحاتِ
سامَحْتُ جلاّدي وكنتُ ظَنَنْتُني
سأنالُ منه بألفِ ألفِ أداةِ
وَطَرَدْتُ من قلبي الضَغيَنة مثلما
طَرَدَ الضياءُ جَحافلِ الظُلُماتِ
فَوَدَدْتُ لو أني غَرَسْتُ أضالعي
شَجَراً أُفيءُ بهِ دوربَ حُفاةِ
جَهِّزْ ليومي في رحابِكَ فُسْحَةً
وَحُفَيْرَةً لِغدي تَضمُّ رُفاتي
(أُفَّيشْ يا ريَحةْ هليْ وطيبَةْ هليْ
وكهوةْ هلي وشوفَةْ هلي لعلاتي)(2)

***


عاتَبْتُهُ - أعني الفؤادَ - فَضَحْتَني
فاهْدَأْ ... أخافُ عليكَ من زَفَراتي
هَوِّنْ عليكَ ... فَقَدْ تُعابُ كهولةٌ
تَرْفو ثيابَ الصَّبْرِ بالعَبَراتِ
أمْ أنتَ أَهْرَقْتَ الوقارَ جميعَهُ
فَعَدَوْتَ عَدْوَ طريدةٍ بَفَلاةِ؟
هَوِّنْ عليكَ فإنَّ حَظَّكَ في الهوى
حَظُّ (ابنِ عَذْرَةَ) في هُيامِ (مَهاتِ)
يا صابراً عِقْدَينِ إِلاَّ بضعةً
عن خبزِ تنّور وكأسِ فُراتِ
ليلاكَ في حُضْنِ الغريب يِشُدُّها
لسريره حَبْلٌ من (السُرُفاتِ) (3)
تبكي وَتَسْتَبكي ولكن لا فَتيً
فَيَفكَّ أَسْرَ سبيئةٍ مُدْماةِ
يا صابراً عِقْدَينِ إلاَّ بضعةً
(ليلى) مُكَبَّلَةٌ بِقَيْدِ (غُزاةِ)
ليلاك ما خانَتْ هواكَ وإنما
(هُبَلُ الجديدُ) بِزيِّ (دولاراتِ)
إنَّ (المريضةَ) في العراقِ عراقَةٌ
أمّا الطبيبُ فَمِبْضَعُ الشَهَواتِ

***


وَطَرَقْتُ باباً لم تُغادِرْ خاطري
فكأنَّها نُقِشَتْ على حَدَقاتي
مَنْ ؟ فارْتَبكْتُ ... فقلتُ: حَيٌّ مَيِّتٌ
عاشَ الجحيمَ فتاقَ للجناتِ
وَصَرَخْتُ كالملدوغ أَدْركَهُ الرَّدى
متوسِّلاً من بلسمٍ رَشَفاتِ
أينَ العجوزُ ؟ فما انْتَبَهْتُ إلى أخي
يبكي ... ولا الشَهقاتِ من أخواتي
عانَقْتُها .. وَغَسَلْتُ باطنَ كفِّها
وجبينَها بالدمعِ والقُبُلاتِ
وَحَضَنْتُها حَضْنَ الغريقِ يَشدُّهُ
رَمَقٌ من الدنيا لطوقِ نجاةِ
قَبَّلْتُ حتى نَعْلَها .. وكأنني
قَبَّلْتُ من وردِ المنى باقاتِ
وَمَسَحْتُ بالأجفانِ منها أَدْمعاً
وأَنابَت الآهاتُ عن كلماتي
وسألتُها عَفْوَ الأمومةِ عن فتىً
عَبَثَتْ به الأيامُ بعد شَتاتِ
واسْتُكْمِلَ الحفلُ الفقيرُ بِزَخَّةٍ
مزحومةٍ ب(هَلاهلِ) الجاراتِ
عَتَبَتْ عليَّ وقد غَفَوْتُ سُوَيْعَةً
عَيْني.. وخاصَمَ جَفْنُها خَطَراتي
قُمْ بيْ نَطوفُ على الأَزِقَّةِ كلِّها
نَتَبادلُ الآهاتِ بالآهاتِ
طاوَعْتُها.. وَمَشَيْتُ يُثْقِلُ خطوتي
صَخْرُ السنينَ ووحشةُ الطُرُقاتِ
الله ! ما أحلى (السماوةَ) ... ليلُها
باكي النَداوةِ ضاحكُ النَجْماتِ
اللهّ ! ما أحلى السماوةَ ... صُبْحُها
صافٍ صفاءَ الضوءِ في المرآةِ
فَتّانَةٌ... حتى نِباحُ كلابِها
خلفَ القُرى يُغوي ثُغاءَ الشاةِ
أَتَفَحَّصُ الطُرُقاتِ ... أَبْحَثُ بينها
عن خَيْطِ ذكرى من قميصِ حياتي

***


فَزَّ الفؤادُ على هتافٍ غابرٍ
عن أَصْدَقِ الأوهامِ في صَبَواتي
هل كان حُبّاً ؟ لستُ أدري.. إنما
قد كان درساً للطريقِ الآتي
كانت تُمَشِّطُ شَعْرَها في شُرْفةٍ
خضراءَ ... تَنْسلُهُ إلى خُصُلاتِ
رَفَعَتْ يَداً منها تشدُّ ستارةً
لِتَصدَّ عن أَحْداقِها نَظراتي
فَظَنَنْتُها رَدَّتْ عليَّ تَحِيتَّي
بإِشارةٍ خجلى وباللَفَتاتِ
كنتُ ابنَ عشرٍ واثنتين ... فَلَمْلَمَتْ
شفتايَ ما اَسْتَعْذَبْتُ من كلماتِ
غازَلْتُها ... ثُمَّ انْتَبَهْتُ إلى أبي
خلفي يَكِرُّ عليَّ بالصَفَعتاتِ
أَتَخونُ جاري يا أَثيمُ وَعِرْضُهُ
عِرْضي وكلُّ المُحْصِناتِ بَناتي ؟
تُبْ للغفور إذا أَرَدْتَ شفاعةً
واسْتَمْطِرِ الغفرانَ بالآياتِ
لا الدَفْعُ يَشْفَعُ والنحيبُ ولا أبي
سَمَعَ اختناقَ الطفلِ في صَرَخاتي
واسْتِكْمَلَتْ أمي العقابَ.. وراعَني
وَيْلٌ بإِطْعامي إلى (السَّعْلاةِ)(4)
فَنَدِمْتُ - رغم براءتي - وأَظنُّهُ
كان الطريقَ إلى جِنانِ صلاةِ

(1) رغم أن جميع جسور السماوة مصنوعة من الحديد، إلاَّ أن أهالي المدينة يطلقون اسم (الجسر الحديد) على جسرٍ واحد بعينه.
(2) أُفيش: كلمة شعبية شائعة الاستعمال في لهجات الكثير من المناطق العراقية، يراد بها التعبير عن فرح القلب وابتراده.
(3) السرفات: جنازير عجلات الدبابات.
(4) السعلاة: حيوان اسطوري اعتادت الأمهات على إخافة الأطفال به.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved