Sunday 14th November,200411735العددالأحد 2 ,شوال 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

شيء من شيء من
بيان الـ 26 وفقه المآلات
محمد عبداللطيف آل الشيخ

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله:( وليس لأحد أن يزيلَ المنكر بما هو أنكر منه)، وهو هنا يشير إلى (فقه المآلات)، وكذلك (فقه الموازنات) الذي لا يمكن للفقيه- فضلاً عن المفتي - أن يستغني عنهما في رؤيته الشرعية للأمور كما يقول أهل العلم. هذان النوعان من الفقه يشيران تحديداً إلى ضرورة أن يقوم من يتصدى للإفتاء باستشراف المستقبل، ومحاولة تلمُّس ما سوف (تؤول) إليه الأمور، فيبني رؤيته أو قوله أو نهيه أو أمره وفقاً لهذه المعايير، فيوازن بين المصالح والمفاسد، وحين يجد أنَّ فِعْله أو قوله (سيؤول) إلى مفسدةٍ أكبر، فعليه أن يكفَّ، ويوضح الحقيقة للناس.
تذكرت قول ابن تيمية هذا وأنا أقرأ البيان الأخير الذي أصدره بعض طلبة العلم لدينا حول المقاومة العراقية، والذي نص على أنها واجب يفرضه الدين على اعتبار أنها من (جهاد الدفع). وهنا يتضح بكل وضوح أن من أصدروا البيان قد قفزوا إلى (الفتوى) دون أن يفهموا ما يجري في العراق جيداً، ودون أن يدرسوا الحالة، أو النازلة بعمق وتروٍّ، ودون أن يراعوا مقتضيات هذا الفقه على وجه التحديد.
فمن اجتزاء الأمور إلى درجة التضليل القول: أن ما يجري على أرض العراق (مقاومة) فضلاً عن أن تكون هذه المقاومة صنفاً من أصناف الجهاد أصلاً. أما السبب فلأن الواقع هو بخلاف ذلك تماماً.
فما يُسمَّى بالمقاومة في العراق الآن تتشكلُ من ثلاث فئات: الفئة الأولى، وهم الأكثرية، فلول حزب البعث البائد، الذين كانوا ذوي حظوة وقوة ونفوذ أثناء عصر الرئيس السابق صدام حسين، ومقاومتهم تهدف وتطمح إلى إعادة حزب البعث إلى الحكم من جديد. أي أنهم (يقاومون) لأسباب حزبية بحتة. الفئة الثانية: هم من فلول وبقايا حزب القاعدة، ومناصري ابن لادن تحديداً، والذين يقاتلون هناك لا حباً في العراق ولا في العراقيين، وانما (انتقاماً) من أمريكا بعد هزيمتهم في أفغانستان.
وهناك فئة ثالثة، تتفق مع (القاعديين) في الهدف، ولكنها تختلف معهم في المعتقدات، وهم بقايا فلول الشيوعيين والثوريين الاشتراكيين والذين جاؤوا من كل أنحاء الدنيا حتى من أمريكا الجنوبية. هؤلاء - الفئات الثلاث - اتفقوا على الهدف: محاربة أمريكا، واختلفوا بعد ذلك على كل شيء، ابتداءً من العقيدة، وانتهاء بالمكان، وكذلك الانتماء والدم والعرق والإثنية.
وحرب أمريكا هناك هي الهدف المشترك، أمَّا تحرير العراق - هذا إذا سلمنا جدلاً أن وجود القوات الأجنبية في العراق احتلال - فذاك أمر لا يعنيهم البتة، فالمهم بالنسبة للبعثيين: عودة البعث إلى الحكم. والمهم بالنسبة للشيوعيين وفلول القاعدة: هزيمة أمريكا.
الأمر الآخر، وهو الأهم، ما يتعلق بالوضع الذي (ستؤول) إليه الأمور لو أن القوات متعددة الجنسيات انسحبت من العراق وهو في هذه الحالة، حيث لا وجود لجيش قوي، ولا قوى أمن، ولا مؤسسات دولة من شأنها القيام بما يجب أن تقوم به الدولة من مهام. وهذا ما اعتبره الكثيرون الجانب الذي يعاني البيان من قصور واضح فيه. انسحاب القوات متعددة الجنسيات من العراق. وعلى رأسها القوات الأمريكية، الآن على وجه التحديد، يعني بكل مباشرة أن العراق سيدخل في حرب أهلية، ستغذيها حالة الفسيفساء والتشظي الديني والطائفي والعرقي الذي يتكون منها النسيج التكويني للشعب العراقي، مما سيؤدي به إلى التفكك حتماً. وهذا الوضع هو بكل المقاييس والمعايير أخطر أضعاف المرات من بقاء القوات الأجنبية في العراق. بل إن بقاءها ريثما يتم بناء مؤسسات الدولة بمثابة شرط الضرورة لتفادي هذا المصير المظلم. وإذا كانت لغة الإحصائيات لها القول الفصل في ثقافتنا اليوم، فإن هذه الإحصائيات تؤكد أن ما يربو على ما نسبته 85% من الشعب العراقي يؤيدون بقاء القوات الأمريكية ريثما تنتهي مهامها. وغني عن القول هنا، وأمام هذا الرقم الإحصائي الكبير:( إن أهل مكة أدرى بشعابها).
ولا يمكن بحال من الأحوال الحديث عن (الجهاد) في العراق دون أن تطفو على السطح تجربتنا المريرة، بل والكارثية في أفغانستان، فمعسكرات الجهاد هناك هي التي صدَّرت لنا ثقافة الإرهاب، وفي أجوائها الملوثة عقدياً وفقهياً وسياسياً تم (تزوير) كل ما هو دخيل على المفاهيم الإسلامية الأصيلة، فتحول دين الرحمة واليسر إلى دين الدم والذبح، وتحولت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الدعوة بالقتل والخطف والسيارات المفخخة، حتى أن الانتحار (حوَّلوه) من الحرمة المطلقة إلى أن أصبح في فقههم نوعاً من أنواع القربات إلى الله جل وعلا. ولا يمكن للإنسان الحصيف والعاقل، ناهيك عن الفقيه، أن يتجاوز ويمر على مثل هذه الأمور والتجارب دون أن يأخذها في اعتباره. فهل - يا ترى - راعى معدو البيان وموقعوه مثل هذه الأبعاد؟
بقي أن أقول، وأمام ما تطرقت له آنفاً: إن هذا البيان كان - للأسف الشديد - أقرب إلى (البيان الحزبي) من كونه بياناً صادراً عن فقهاء وطلبة علم.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved