* الدمام - تحقيق: خالد المرشود:
يُعتبر شهر رمضان المبارك جامعة مفتوحة يحوي العديد من الخصائص الالهية المتباينة، سواء منها العملية أو العلمية، كالصبر والثبات ومراقبة الله عز وجل والايثار، ومنها تربية النفس دينياً ونفسياً.. كما يحوي شهر الله نواحي أخرى اجتماعية كالتكاتف والتعاضد، ونواحي أخرى ثقافية ورياضية وجسمانية.. ولتجلية هذه المعاني العظيمة في ضوء المعطيات الربانية التقينا في (الجزيرة) بعدد من أهل الرأي والاختصاص لبيان هذا الجانب العظيم.
فبداية تحدث ل(الجزيرة) مدير عام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة الشرقية فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن مرشود المرشود عن آلية سمو المسلم بنفسه في مثل هذه المعطيات، مبيناً أن صيام شهر رمضان موسم عظيم لكل مسلم يسعى فيه بالفوز بالمغفرة ورضوان الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه). وقال الشيخ المرشود: كان بعض الصالحين يدعون الله (6) أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه (6) أشهر أن يتقبل منهم.
وأضاف: ان فيه ليلة القدر التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ حرمها فقد حُرم الخير كله ولا يُحرم خيرها إلا محروم).
وقال: لكي يظفر المسلم بهذا الخير ويسمو بنفسه فإن عليه ان يتوب إلى ربه من جميع الذنوب والمعاصي، وان يحرص على تلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه والمواظبة على صلاة التراويح والاجتهاد في الدماء وتحري أوقات الاجابة عند الافطار، وفي الثلث الأخير من الليل وغيرها من مواضع إجابة الدعاء، مع كثرة الصدقة وبذل الاحسان وصلة الارحام وادخال السرور على المسلم في هذا الموسم العظيم.
من جهته قال ل(الجزيرة) مدير عام التربية والتعليم للبنات بالمنطقة الشرقية د. سمير بن سليمان العمران: يستطيع المسلم أن يسمو بنفسه من خلال التكافل الاجتماعي، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أجود ما يكون في شهر رمضان، وهذا دليل على قضية البذل والانفاق. وأضاف د. العمران: ونحن اليوم بحاجة ماسة إلى التكافل، كما أوصى كثير من الأئمة بالحرص على قراءة القرآن والذكر وان تكون لدى الصائم صدقة موزعة على مر الشهر سواء منها الواجبة أو المستحقة لكي يكون هناك شعور بالمساهمة والعبادة، رغم أنها ليست محصورة بهذا الشهر الكريم لكنها تزداد عطاء اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم. وأكد العمران أن الصيام مدرسة يجب أن يستشعر المسلم خلالها بإخوانه.
كما تحدث ل(الجزيرة) مشرف النشاط الطلابي (الثقافي) بوزارة التربية والتعليم الاستاذ أحمد بن محمد شبير، مشيراً إلى أنه يمكن للمسلم ان يسمو بنفسه ويرتقي بها من خلال اتباع أمور عدة أبرزها وأهمها: مجاهدة النفس صبراً على الطاعة وصبراً عن المعصية وصبراً على نوائب الدهر.. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. وأضاف شبير: قال الشاعر:
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
ومن الأمور كذلك قراءة القرآن قراءة خاشعة واعية دامعة.. فرمضان بحق شهر القرآن الذي أُنزل فيه على المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وعرضه عليه جبريل عليه السلام في آخر سنة مرتين.. والقرآن نور وهدى ورحمة وعدل وصدق وإخلاص إذا تطبع المسلم بأخلاقه.. كذلك منها الاكثار من الأعمال الصالحة مثل صلة الأرحام وصلاة القيام وإطعام الطعام وكف الاذى وبذل الندى ولين الجانب وزيارة المريض والاستغفار والدعاء والمداومة على الصلوات الخمس. وقال احمد شبير: ولكي يتحقق السمو الروحي والنفسي المنشود يحسن بالمسلم مراعاة التوازن فيما يأتي ويذر من صالح الأعمال، وتقديم الأهم على المهم خشية إرهاق النفس وإملالها.. وليتذكر حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإنْ قلّ).
من جانبه قال ل(الجزيرة) مدير مدرسة عكاظ الثانوية بالدمام الاستاذ صالح السواط: إن شهر رمضان فرصة عظيمة لكي يربي المسلم نفسه وأهله على المعاني العظيمة بوسائل متعددة منها:
التهيئة النفسية لشهر رمضان المبارك بالتعويد والتدريب على صيام أكثر أيام شهر شعبان من باب التهيئة لذلك، ومنها التخطيط المبكر للاستفادة القصوى من هذا الشهر الكريم سواء في العبادات أو في استثمار أوقاته المباركة، ومنها الاهتمام بالآخرين من أهل بيته وأقاربه وزملاء العمل ببرنامج التواصل والزيارات وصلة الارحام في ليالي رمضان، ومنها أن يكون للمسلم نصيب وافر من القرآن الكريم.
من جانبه تحدث ل(الجزيرة) الشيخ محمد الصمعاني، مشيراً إلى أن النفس البشرية خُلقت من تراب الأرض، وهي سفلى، فإذا عانقت هدي السماء ارتفعت وسمت وعلت، وان تركت هدي ربها بقيت في السفل، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. وأضاف الشيخ الصمعاني : فرمضان جامعة للسمو بالنفس من خلال الضوابط التالية: فبالاخلاص يرتقي المسلم إلى درجة الصديقين ويدنو من ربه تعالى، وبمتابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينال المسلم صحبته ورفعة درجته في الجنة، وبالتقوى يزكي الانسان نفسه من دنس الذنوب والمعاصي، وبالاحتساب يكبح جماح بالنفس عن كل رديء، وبالايمان ينال الثواب من الكريم الرحمن.. فرمضان يجمع للمسلم بين الصبر وهو أقوى سلاح يواجه به الانسان ما يعرضه من نوائب الدهر، وبين التخلي عن النزعة الشهوانية التي تعكر صفو الايمان، وبين متع الدنيا التي تبعد الانسان عن ربه جل وعلا.
وأضاف الشيخ الصمعاني: كما أن رمضان يروض المسلم على عدم الأنانية وعلى الاحساس بالآخرين وذلك بتدبر معنى الصيام.. ويمسك المسلم عن كل خلق مشين ولا يقابل مَنْ يسيء له الا بالاحسان.. وبها يسمو المسلم في كل خلق كريم.
وقال الشيخ محمد المرشود: ينبغي على المسلم أن يأخذ نفسه بالعزيمة والجد فيزجرها عن الملهيات والصوارف التي تبعده عن طاعة الرحمن.. فإن الجنة قد حُفَّتْ بالمكاره وحُفَّتْ النار بالشهوات.
وحيال الضوابط التي تمكن الصائم من الاستفادة بأكبر قدر ممكن من هذا الشهر الكريم وما تبقى منه يشير الدكتور سمير العمران إلى أهمية الانضباط بهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمتابعة لسيرة الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم، وكذلك منها التخطيط المسبق لشهر رمضان المبارك وجدولته بما يتناسب مع روحانيته المباركة.
أما المشرف الثقافي أحمد شبير فيشير إلى وجوب تقوى الله ومراقبته بالسر والعلن، وذلك في كل وقت وحين.. إضافة إلى التهيؤ النفسي والمعنوي لاستقبال شهر رمضان، وإعداد برنامج مناسب لحسن استغلاله واحتساب الاجر فيه، إلى جانب العزم الصادق على اتخاذ الصلوات الخمس مفاتيح لتنظيم الوقت والافادة منه.. قال عليه الصلاة والسلام: (وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة). ومنها يقين المسلم المؤمن بأن الصيام نعمة عظيمة تعينه على محاربة الهوى وقمع الشهوات وتزكية النفس وكف اللسان عن اللغو بأنواعه وكف بقية الجوارح عن المحرمات.
أما مدير مدرسة ثانوية عكاظ بالدمام الاستاذ صالح السواط فيشير إلى أهمية الاهتداء بهدي السلف من الصحابة التابعين والاستفادة من المكتبة المنزلية في قراءة السير والتقليل من الأكل والشرب في هذا الشهر الكريم واعتباره انطلاقة لضبط النفس والاهتمام بالجانب الروحاني من صلاة وقيام ليل وقراءة للقرآن الكريم.. كذلك الجانب الاجتماعي من زيارات وصلة أرحام والعناية بجانب الشفقة والرحمة تجاه الفقراء والمساكين بما لهم من حقوق الصدقات والزكوات ورعايتهم.. كذلك عدم إغفال الجانب الترفيهي والترويحي لأفراد الاسرة من زيارات أو تسوق، وتشجيعهم بالمنافسات الشريفة.
الشيخ محمد الصمعاني يؤكد على أهمية الإخلاص لله تعالى، فلا يقبل عمل حتى يكون خالصاً لوجه الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وأن يكون العمل موافقاً لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
ومن خلال هذين الضابطين تتفرع ضوابط أخرى منها: الايمان الكامل بما أعده الله تعالى لمن عمل عملاً من الثواب، والاحتساب وهو أن يعمل العمل طلباً للثواب من الله تعالى، وتقوى الله تعالى وهي الاساس من مشروعية الصيام.. إضافة إلى تدبر معاني الصوم فمعنى الصوم الإمساك.
وحيال مرور شهر رمضان بوقت واحد قليل يتحدث فضيلة الشيخ محمد المرشود مدير عام هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة الشرقية، مشيرا إلى أن مرور هذا الشهر الكريم خلال السنة لمرة واحدة درس ولا يعلم الانسان متى تأتيه المنية وهل يدرك رمضان القادم أم لا؟! بل هل يدرك تمام الشهر أم لا؟! وفي ذلك دلالة أخرى على سعة فضل الله تعالى ورحمته بعباده أن يسَّر لهم سبل الخير والطاعة في أزمان قصيرة، ووعدهم جل وعلا بأجور مضاعفة.. فقد قال عليه الصلاة السلام حاكياً عن ربه: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.. قال الله إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به). واستفهم الشيخ المرشود بقوله: فأي فوز أعظم من الفوز بجزاء الله تعالى وهو الكريم المنان. وأضاف: ثم إن هذا الموسم فرصة كبيرة لتربية الأجيال وتهذيب نفوسهم وحثهم على التسابق إلى فعل الخيرات واغتنام الأوقات والصبر على طاعة الله وتفقد أحوال الفقراء والمحتاجين.
من جهته قال مدير عام التربية والتعيلم للبنات بالمنطقة الشرقية د. سمير العمران: إن مرور شهر رمضان بزمن ووقت معلوم هو هبة من الله تعالى ليكون هناك محطات لتوليد طاقة للمسلم. وأضاف د. العمران: ان العلماء يعودون أبناءهم ويربونهم من خلال شهر رمضان وهم صغار، فكم مرّ على الأمة من شهر رمضان؟ ومرّ عليهم حتى الآن 1423هـ رمضان فكم خلصنا به من تربية لأجيالنا؟؟.
المشرف التربوي بوزارة التربية والتعليم أحمد محمد شبير قال: يمكن عمل اشياء كثيرة بمناسبة مرور شهر رمضان على الأمة، منها يجب شكر الله تعالى على بلوغ شهر الصيام قبل الممات ليزداد علماً وعملاً، كذلك تغيير الحال إلى الأحسن والأفضل بداية بالتوبة الصادقة ومروراً بالأعمال الصالحة وانتهاء بخير زاد إلى الآخرة (تقوى الله) وهي الغاية.. كما ان إدراك الأمة للصيام يؤدي الى توجيه العبادة لله في جميع الأزمان لا مجرد عبادته في رمضان فحسب، ولذلك مَنْ لم ينتفع فيه فإنه محروم.. وأي اختزال للسنين تحمله ليلة القدر؟!.
وأضاف شبير: يمكن توظيف شهر رمضان باعتباره جامعة مفتوحة في تربية الاجيال باستيعاب كافة جوانبه الدينية والاجتماعية والثقافية عن طريق وسائل شتى، ومنها على سبيل المثال: توعية الأسرة المسلمة بأهمية دورها التربوي في بناء الفرد المؤمن بربه المطيع لوالديه النافع لدينه ومجتمعه المحب لوطنه وولاة أمره، كذلك افتتاح المراكز الرمضانية التي تعزز دور الاسرة في التربية المتوازنة، إضافة إلى إعداد وتنفيذ برامج رمضانية تخدم الأسرة والمراكز السابقة وسائر افراد المجتمع، تتصف بالعلمية المدروسة والجدية المشوقة والتنوع الشامل لجوانب الشهر النفسية والاجتماعية والثقافية، بحيث يستفيد منها كل صغير وكبير ذكر أو أنثى في عموم مناطق ومحافظات المملكة.. بل وعلى المستويين المحلي والعالمي وعلى كافة الأصعدة.
كما قال مدير مدرسة عكاظ الثانوية صالح السواط: إن مرور شهر رمضان بوقت وزمان واحد يمكن أن نتعلم منه النقاط التالية: ان جميع الامة الإسلامية تمتنع عن الاكل والشرب وسائر المفطرات في نهار رمضان من الفجر إلى الغروب وهو مظهر اجتماعي يتميز به العالم الإسلامي ويتجلى فيه تنظيم الوقت وتوحيد الزمن.. كذلك أداء صلاة التراويح جماعة في مسجد الحي الذي يمتلئ بالمصلين المقبلين لأدائها.. كذلك انتشار الافطار الجماعي والاقبال العظيم على كتاب الله من حفظ وتلاوة وتدبر لمعانيه.
وعن استيعاب شهر رمضان بتربية الاجيال قال السواط: في الجانب الديني المحافظة على صلاة الفرض في جماعة مسجد الحي، تأدية صلاة التراويح، المحافظة على تلاوة القرآن، الذهاب لأداء العمرة. أما الجانب الاجتماعي فيتمثل بالاجتماع مع الاسرة في تناول وجبتي الفطور والسحور والتقارب الاجتماعي مع افراد الاسرة وصلة الارحام في ليالي رمضان ومع الزملاء والتهاني في تبريكات شهر رمضان في بدايته وعند نهايته.
أما في الجانب النفسي فيتمثل بالاحساس بالجوع والفقر والمشاركة الوجدانية للفقراء والمساكين والتصدق على الفقراء رجاء المثوبة والزكاة المفروضة والتألم لحال المسلمين.. اضافة إلى الدعاء للمسلمين بالنصر والتمكين.
الشيخ محمد الصمعاني يؤكد أن مرور شهر رمضان بوقت وزمن واحد يُشعر بوحدة الايمان التي قال الله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فالله تعالى نادانا بالايمان.. فكل المؤمنين واحد في هذا الخطاب الرباني.. فينبغي عيلنا ان نجعل من رمضان اخوة ايمانية حقيقية بين المسلمين، فهم يتوجهون في هذا الشهر لعمل موحد فيكون ذلك درساً لهم على الوحدة وعدم الفرقة.. وانه مهما اختلف المسلمون إلا أن هدفهم ومقصدهم واجتماعهم واحد.. ففي رمضان تكريس لمعنى الوحدة الايمانية التي ينبغي ان نصفي قلوبنا عليها.
وحيال استثمار شهر رمضان في تربية الاجيال يضيف الشيخ الصمعاني: يجب ان يكون مرور رمضان على حياة الاسرة المسلمة لا كبقية الشهور، ويجب أن يتعود الاطفال على معاني رمضان ويستشعروا روحانياته من خلال كثرة قراءة القرآن والذكر وترك ما كان معتاداً في غيره، وتعويدهم على الصيام والصبر والتحمل وبث روح التنافس في العبادات من خلال إجراء مسابقة بين الاطفال لأكثر نسبة للصيام وقراءة القرآن والصلاة في وقتها والاجتماع عند الافطار وعلى السحور.. واستغلال ذلك في الذكر والدعاء والقدوة الحسنة حتى يتخرج الاطفال من رمضان -ذلكم الجامعة العظيمة التي تربي النفوس على كريم الاخلاق وعلو الهمم- مستفيدين.
|