******
الكتاب: ARAFAT L'IRREDUCTIBLE
عرفات الذي لا يُحْصَرْ
المؤلف: Amnon Kapeliouk
الناشر:Fayard-Paris-2004
******
(طوال تلك الأربعين عاماً من المشي نحو الهدف/ الجنون/ الحلم/ الوطن.. من يمكنه أن يسترسل في سرد الحكاية من دون أن يجهش بالبكاء، ليس لشيء سوى لأن الذاكرة الفردية لا تنسى. قد ينسى الناس بعض ما يحدث لهم ولكن ذاكرتهم تظل تخفي بسرية أشياء نتذكرها فجأة لنستغرب قبالتها، كأنها لم تحدث لنا، كأنها حدثت لشخص آخر نعرفه جيداً. شخص ينظر إلى وجهه في المرآة صباحا، شخص يحمل ملامحنا أيضا. تلك هي التفاصيل التي لا يمكن الوقوف أمامها إلا لنتأمل تاريخها، للنظر إلى عينيها ولنبكي قليلا أمام العمر الذي مضى أمامها وانتهى فجأة إلى (خبر عاجل) قد يقطع سير مسلسل تافه ليعلن أن (الشخص الذي انتظرتم موته قد مات فعلاً.. مات هذه المرة، مات حقا!)
هذه المقدمة التي نقرأها في الصفحة الأولى في كتاب يحمل عنوان (عرفات الذي لا ينحصر بقلم (جاك فليشيه). ربما هي رسالة نعي مسبقة يضعها الكاتب في إطار أراده مدخلاً للكتاب الذي يتناول حياة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي يواجه اليوم مرضه في أحد المستشفيات العسكرية في ضواحي باريس. باريس التي زارها لأول مرة عام 1970 بصفته واحدا من أشهر رؤساء التنظيمات النضالية القومية في العالم الثالث، ليعود إليها بعد أكثر من ثلاثين سنة مريضا، على مقربة من نهاية قد تبدو للكثيرين صدمة وللبعض واقعاً لا مهرب منه، يقول الكتاب. كأنها بداية النهاية بالنسبة إليه. هو الذي قال عنه (أرييل شارون): نهايته تعني ميلادي الحقيقي! ربما اضطر شاورن إلى انتظار أربعين عاماً من مسيرة هذا الأخير، ليس لأن نهايته ستعني ولادة شارون حقا، بل لأن كل شيء يبدو اليوم جاهزا للكثير من التقاطعات السياسية وحتى الإيديولوجية. قد يموت الرجل في أي وقت. وسيصل خبر موته إلى العالم بأسره. قد يسأل أي مواطن في أقاصي (الأمازون) لا يعرف عنه شيئاً قائلا: ربما يتوجب أن نقف دقيقة صمت عليه لأنه ناضل طوال أكثر من أربعين عاما لأجل مدينة لم يدخل إليها قط! مدينة ظلت تراوده حتى الرمق الأخير.. مدينة اسمها القدس.
كتاب: (عرفات الذي لا يُحصر) الذي نتناوله اليوم جاء في وقت حساس جدا، يمر به الزعيم الفلسطيني، ربما الوقت الأخير، كما تقول الصحف الفرنسية التي استقبلت الكتاب باهتمام أكبر، ليس لأنه يقول شيئاً جديدا حقا، بل لأنه جاء في وقت يبدو فيه الزعيم الفلسطيني منتظرا لأول مرة شيئا يخصه هو بالذات: إنها نهايته.
لهذا (فإن الحديث عن ياسر عرفات بالذات ليس سهلا ولا بسيطا ولا عاديا، إنه الرجل الذي ارتبط اسمه بالصراع الدائر في الشرق الأوسط، مثلما ارتبطت ملامحه و(كوفيته) المتميزة بالقضية الفلسطينية، بالمسدس وغصن الزيتون الذي رفعه الزعيم الفلسطيني في مبنى الأمم المتحدة سنة 1974، يوم ألقى خطبته الشهيرة، ويوم لفت الانتباه الدولي إليه، ليس كرئيس منظمة التحرير الفلسطينية، بل كسياسي لا يمكن التخلص منه بسهولة، يقول الكاتب..
أكثر من سبعين عاما عاشها الزعيم الفلسطيني قضى منها ما يقارب الأربعين سنة يناضل لأجل نفس الهدف الذي يسعى إليه كل الشعب الفلسطيني كله، بمختلف فصائله وأحزابه. هدف تحول في ظروف سياسية صعبة والتواءات خطيرة إلى حلم. مجرد حلم يستيقظ عليه الفلسطينيون ويعيشون على أمله، حلم الاستقلال والأمن والسلام الذي يوما بعد يوم يبدو بعيد المنال لحد المستحيل، ليس لأن إمكانية السلام مستحيلة حقاً، بل لأن أسبابها صعبة، الآن وإسرائيل وضعت اليد على كل الأراضي الفلسطينية التي تسمّى (الحكم الذاتي)، تدخلها كيفما شاءت ووقتما شاءت وتشن الغارات عليها حسبما تشاء وتجرف بيوتها وفق (أمزجة) رئيس الحكومة الإسرائيلية (أرييل شارون) الذي اعترف في خريف عام 1988 أنه لم يكره شخصا كما كره (ياسر عرفات) ولم يبغض شعبا كما بغض الشعب الفلسطيني والعربي ككل، يقول الكتاب.
ولد (ياسر عرفات) في مصر، بالضبط في منطقة السكاكيني في ضواحي القاهرة بتاريخ 24 أغسطس عام1929. ربما مكان ولادته ظل مطروحا لعدة سنوات، فالبعض يقول إن الزعيم الفلسطيني من مواليد القدس في نفس السنة المذكورة، ومهما يكن من أمر فإن الحقيقية المتفق عليها هي انه من مواليد 24 أغسطس 1929. هو واحد من سبعة إخوة كان والدهم تاجراً معروفاً. واسمه الحقيقي: محمد عبد الرحمن عبد الرؤوف عرفات القدوة. درس بجامعة القاهرة وتخرج منها كمهندس مدني. في مرحلة دراسته الأولى التحق ياسر عرفات بالعديد من الحركات القومية التي كانت تدعم الفكر القومي العربي لأجل التحرر من الاستعمار منها اتحاد الطلاب الفلسطينيين الذي ترأسه من عام 1952 إلى عام 1956 وهي نفس السنة التي شارك فيها في حرب السويس. في أثناء انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة 3 فبراير 1969، تم تعيين ياسر عرفات قائدا لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن كان قائدا لحركة فتح التي صارت جزءاً لا يتجزأ من المنظمة التي لم تكن تحظى باعتراف دولي كبير، في قمة الصراع على المواقع في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات.
كانت السبعينيات من أدق المراحل حساسية وصعوبة وخطورة وتحديا ورهانا بالنسبة للنضال الفلسطيني، كانت الحرب الباردة في أوجها، تلك الحرب التي صنعت أقطابا متحركة، بعضها موالية للقطب السوفيتي والثانية موالية للقطب الأمريكي، والمتبقية موالية للقطبين معا. كانت إسرائيل من الدول التي أرادت الاستفادة من كل الأوضاع، لأجل تمرير رسالة (الأرض اليهودية الموعودة لليهود) وهي الرسالة التي على أساسها بدأ تطبيق خطة النزوح والهجرة إلى إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه الدولة العبرية تمارس على الفلسطينيين ضغطا سياسيا واستراتيجيا عبر حمل الولايات المتحدة على فرض الحصار على منظمة التحرير الفلسطينية بتهمة (الإرهاب) وهو الشيء الذي ساهم في تصاعد التوتر السياسي دوليا، بين الشرق والغرب، ليس لأن الاتحاد السوفييتي ساند منظمة التحرير الفلسطينية، بل لأن الحرب الباردة كانت تسعى إلى صياغة خريطة في منطقة الشرق الأوسط تتأسس بموجبها ما تسميه الدولة العبرية اليوم (القوة الإسرائيلية العظمى) وهي القوة التي اضطرت منظمة التحرير الفلسطينية إلى مواجهتها بإمكانيات لا تخلو أحيانا من الرد بين وقت وآخر عبر عمليات مسلحة، بينما كان الرد الكبير الذي برع الزعيم الفلسطيني في صناعته هو الخطاب السياسي البراغماتي المحض. لقد كان عرفات واحدا من أكثر السياسيين إجادة للخطاب، وقدرة على التأثير على الآخر بخطاب قد لا يستغرق الربع ساعة، ربما يزول التأثير فيما بعد ولكن التأثير يكفي غالبا ليجعل من ياسر عرفات شخصية معروفة، وهو الشيء الذي حدث في مقر الأمم المتحدة عام 1974م.
قبل ذلك كانت القمة العربية المنعقدة في الرباط في سنة 1973، والتي بموجبها تم الإعلان الرسمي العربي عن أن منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وهو الإعلان الذي حقق اعتراف العديد من الدول الغربية (بمن فيهم الأمم المتحدة) بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. لكن هذا الاعتراف لم يكن ليحمي المنظمة من الاغتيالات التي كانت ترتكبها المخابرات الإسرائيلية ولا من المطاردة في المنافي من بيروت إلى عمان إلى تونس.
ظلت إسرائيل تطارد المنظمة الفلسطينية مستهدفة أبرز الشخصيات القوية فيها، يقول الكتاب. من المنظور الفكري/ السياسي، ينتمي الزعيم الفلسطيني إلى جيل الوطنيين الذين عرفهم النصف الثاني من القرن الماضي. ربما كان من أشد المعارضين لفكرة التفاوض مع الإسرائيليين بدون ضمانات سياسية حقيقية، منها الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف بالحق الفلسطيني في الاستقلال والحق في العودة إلى الوطن وهي الشروط التي كانت (و ما زالت) ترفضها إسرائيل جملة وتفصيلا. لكن الضغط الدولي المستمر أجبر ياسر عرفات على التنازل عن رفضه السابق، وقبوله بمبدأ التفاوض الذي لم يكن يعني بالنسبة للإسرائيليين سوى كسب الوقت لمزيد من التنظيم العسكري والاجتماعي (أكثر من نصف مليون مهاجر يهودي دخلوا إلى إسرائيل في ظرف سنتين فقط)، بينما مئات الاتفاقيات التي سرعان ما كان يقتلها الإسرائيليون عنوة، باسم (الاختلاف العميق) والذي كان في الحقيقة تعنتا حقيقيا جعل القضية الفلسطينية تضيع بين أرجل الدول الكبيرة لصالح إسرائيل التي استفادت من كل المتغيرات التي حصلت في العالم منذ (نهاية) الحرب الباردة وانتهاء القطب السوفييتي. لكن فترة التسعينيات أسفرت عن اتفاقية أوسلو وإنشاء سلطة فلسطينية في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. في شهر سبتمبر من سنة 2001 انفجر الغضب الفلسطيني فاتحا الباب لانتفاضة ثانية بعد انتفاضة 1987.. والحال أن انتفاضة الأقصى اندلعت بسبب الزيارة التي قام بها أرييل شارون للمسجد الأقصى وحالة اليأس والإحباط التي عمت الشارع الفلسطيني من المفاوضات التي لم تحقق له حلم الدولة الفلسطينية واستعادة الأراضي المحتلة وعودة اللاجئين. وبدا ياسر عرفات في أوائل عام 2002 مساندا للانتفاضة رغم تصريحاته المتكررة بإدانة العمليات التي تستهدف المدنيين من كلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. تلك السنة التي جعلت شارون يفرض حصارا حقيقيا على ياسر عرفات بسجنه داخل مقره بمدينة رام الله، بالضفة الغربية بتهمة (الهجمات الإرهابية!).
إسرائيل التي (تحارب الإرهاب) (!) أعادت احتلال معظم المدن والقرى التابعة للضفة الغربية.
المجتمع الدولي (ضغط) على شارون لعدم (قتل) ياسر عرفات أو استهدافه، وقد (تعهد) شارون بذلك حين وصلت فوهة مدافعه مخترقة الجدار الأول من مقر عرفات، في الوقت الذي كانت آليات الدمار الإسرائيلي تعيث في المنطقة فسادا مستهدفة المدنيين العزل في اعنف هجمة قادها أرييل شاورن ضد الفلسطينيين منذ الستينات، يقول الكتاب. هو إذن ياسر عرفات الذي يشبه الأسطورة أحيانا، ربما لأنه كان داخل معظم المداخلات السياسية التي طرحت في الشرق الأوسط على مدى أربعين سنة، يبدو اليوم على فراش المرض، يتجاوز السبعين عاما، مريضا ومتعبا من سنوات طويلة لم يخرج منها سوى بابنته زهوة التي لم يرها منذ عامين كاملين. عرفات الرجل والسياسي والتاريخي، قد يتحول إلى ذاكرة طويلة المدى بالنسبة للفلسطينيين. ذاكرة قد تتوقف وتنكمش في غمرة البحث عن الطريق الذي يقود إلى القدس. القدس المدينة والحلم والنظرة الأخيرة في مسيرة كانت مليئة بالحزن وبالدموع. يقول الكتاب.
|