* قصة: حسن النعمي:
مر عام، عامان، ثلاثة.. ولكن لا خبر، أبي الذي اعتاد أن يوقظني كل صباح لم يعد يفعل، كان يرى في كل صباح أملاً جديداً في حصول ابنه البكر على وظيفة. الوظيفة.. الوظيفة أصبحت مفردة بغيضة إلى نفسي. أحمل شهادة جامعية ولكن بلا وظيفة.. أشعر بأنني معاق.. نعم، أنا معاق بشهادتي.. أنا لست عالماً ولا أصلح أن أكون باحثاً، ولكن مقصدي أن أعيش، أتكسب بشهادتي.
في هذا اليوم استيقظت قلقاً، مضجراً، لاحظت أمي هشاشة وجهي.. بادرتني قائلة:
- متعب أنت يا رهوان؟
- كعادتي، يا أمي.
- لا أنت أكثر تعباً، استرح قليلاً في فراشك.
- سأخرج.
- وأنت هكذا؟
- نعم.
وخرجت مندفعاً نحو الشارع، وأمي تشيعني بكثير من الدعاء الذي أحتاجه.
أنا قليل البخت، سمعت أبي يقولها ذات مساء لأمي، وقال أيضاً بحرقة بالغة بأنني تعبت ودرست والتالية جالس في البيت. أبي مسكين، وأمي مسكينة، وأنا مسكين.. أبي مسكين لأنه اعتقد أن الولد هو العزوة وضمان المستقبل، وأمي مسكينة لأنها تريد أن تفرح بولدها الوحيد، وأنا مسكين لأني بلا مستقبل.. أختي التي كان يحسبها أبي عبئاً عليه تزوجت.. لم تعد أختي عبئاً.. أصبحتُ أنا العبء.. الشخص المعاق.
فكرت أن أعمل سائقاً أو محاسباً أو منظف سيارات.. وجدت هذه المهن لا تحتاج إلى مزيد من العمال.
توقفت أمام بائع جرائد.. أمسكت جريدة وتصفحتها.. نهرني البائع:
- ممنوع القراءة.
لم ألتفت اليه، فقال بصوت حاد هذه المرة:
- قلنا ممنوع. قلت له:
- بقي صفحة واحدة.
قال وهو يخطف الجريدة مني:
- ادفع ثمنها.
- ليس معي ثمنها
- لا أصدق!
- هذا شأنك.
- هل تقصد ليس معك الآن؟!
- ليس الآن وليس غداً ولا بعد غد.
- لماذا هذا التشاؤم؟
- ليس لدي عمل.
- ولماذا ليس لديك عمل؟
- لأنني أحمل شهادة في التاريخ!
- ما علاقة الوظيفة بالتاريخ؟
- قالوا ادرس التاريخ لتحصل على عمل مناسب.. درست ولم أحصل على عمل.
- تتكسب بالتاريخ؟!
حاولت أن أصحح مفهومه عن دراسة التاريخ، ولكنه قال مستكشفاً:
- هل تريد عملاً؟
قلت بحرارة استغربها هو:
- نعم!
- تساعدني في بيع الجرائد وأعطيك نسبة؟!
لاحظ انكساري وخيبة أملي فأردف قائلاً:
- مؤقتاً حتى ......
قاطعته بحدة تعكس ما بداخلي:
- حتى أجد للتاريخ وظيفة تحفظ كرامته.
قبلت هذا العمل رغبة في الخروج من مأزقي ولو بشكل مؤقت.
الضجر والملل والانتظار.. ثلاثية تقتلني وأبي وأمي يعيشان مأزقي لحظة بلحظة.. أخبرتهم أنني وجدت عملاً مؤقتاً.. زغردت أمي ودعا لي أبي بفتور. قرأت في وجهه عدم الرضا.. أنا نفسي لستُ راضياً. قلت له ذلك. أضفت: لابد أن أعمل أي شيء حتى تفرج.. أنت تعرف يا أبي انه ليس لدي أي حرفة يدوية. ذهبت لفراشي مبكراً، انتظرت الصباح، انتظرته أكثر من أي صباح آخر.
مرت صباحات كثيرة منذ تخرجي وأنا أنتظر وهم الوظيفة. ولكن الوظيفة لا تأتي. في مكتب التوظيف وضعوا إعلانا لا تخطئه العين (لا توجد وظائف شاغرة لحملة شهادة التاريخ و.... و... و....).. نعم هذا الصباح صباح آخر. إنني أحب كلمة الصباح بكل ما تعنيه من تجدد وأمل ينبت مع اطلالة الشمس المتجددة، أشعر أنني أركض باتجاه الشمس استعجل شروقها، لا أدري إن كنت قد نمت أم لا. نهضت من فراشي رشيقاً متحمساً اتقد رغبة في العمل، قبلتُ رأس أمي وخرجت محمولاً على نهر متدفق من دعائها. توجهت لبائع الجرائد، وفي طريقي عزيت نفسي بأن الحركة فيها بركة؛ فربما تأتي الوظيفة بعد شهر أو شهرين، كما أنه ليس عيباً أن يعمل الإنسان أي عمل ما دام شريفاً.. وفكرت في العائد المادي.. ولكنه لم يكن هاجسي؛ فأنا أعرف أنه سيكون قليلاً، إنني أريد أن أعمل وكفى.. لو لم أعمل سوف أُجَنُّ، سوف..! لا داعي للثرثرة.
وبَّختُ نفسي، ومضيت أحث الخطى نحو بائع الجرائد. فكرت في مهنته. انها ليست سيئة، فقط رزقها محدود، يجب ان يكون كذلك، فهو يحمل شهادة عالية، ولكنني أحمل شهادة عالية وليس عندي مهنته، بل انني أسعى اليه، أحسست بحرقة دفينة في صدري. تساءلت: هل يمكن أن اعيش بلا وظيفة! زاد غيظي. وفي كل مرة يجهدني التفكير.. كنت أهرش رأسي، حتى سقط ذات مرة عقالي، رأيته يتدحرج بين السيارات. ركضت بين السيارات جرياً وراء عقالي دون أن أشعر. تقافزت أبواق حادة من كل الاتجاهات، جفلت من حدتها، أكملت طريقي حتى وصلت للشارع الذي يقبع فيه بائع الجرائد. لم أجده في مكانه المعتاد، ذرعت الشارع طولا وعرضا.. لم أعثر عليه. ما الذي حدث؟! اقتربت من صاحب بقالة وسألته عن بائع الجرائد، أخبرني بأنه قد انتقل الى الشارع الخلفي. جريت اليه.. كانت الشمس قد بدأت تصب غضبها الصيفي.
أحسست بالعطش.. شربت من ماء سبيل في طرف الشارع.. بعدها حدقت في كل زوايا الشارع.. لم أر أثراً لبائع الجرائد. واصلت بحثي عنه في الشوارع المجاورة.. سألت المارة ان كانوا قد رأوه لا أحد يهمه ان كان هناك بائع جرائد في الشارع أم لا. إنها مسألة تخصني وحدي.. كان يجب ان أعلم ذلك. وسَّعت دائرة البحث، وكان كل شارع يفضي الى شارع آخر.
وكل شارع يفضي الى فراغ آخر، رأيت الشوارع شكلاً واحداً.
نفس الأرصفة والبنايات تتكرر.. حتى المارة هم ذات المارة في كل الشوارع. الشمس تبوأت قلب السماء.. راحت ترسل جبروتها فوق المارة.. خلت الشوارع تقريباً إلا مني.. تصببت عرقاً.. وتملكني الإعياء حتى فقدت التركيز. استندت على سور مبنى قديم.. رفعت بصري بتثاقل.. رأيت بائع الجرائد يقطع الشارع من الجهة الأخرى، قفز قلبي فرحاً.. جريت لا ألوي على شيء.. وصلت لاهث الانفاس. لا أصدق.. لم أجد البائع ولا جرائده.. تُرَى مَنْ الذي رأيت؟! جرجرت قدمي حتى وجدتني أعود إلى أول شارع شاهدت فيه بائع الجرائد بالأمس.
|