فلسطين التي يعصف بها حزن ثقيل لم تبرح الأحزان ساحتها يوما، لكن فقدان رمز نضالها ياسر عرفات بسبب المرض أو الموت ضاعف من الحزن الكبير الكامن في النفوس منذ عقود من الزمان، ومنذ غادر أبو عمار مقر المقاطعة في رام الله قبل أكثر بقليل من أسبوعين فقد غرقت البلاد كلها في موجة من الوجوم، لكنها كانت قادرة -على كل حال- على تحسس أوضاعها، وهذا ما لفت الأنظار إلى قدرة القيادة الفلسطينية على تدبر الأمور بسلاسة، وهي وسط هذه الظروف الدقيقة، وهو أيضا ما يحمل على الاطمئنان على إمكانية تجاوز الأوضاع القادمة -بما فيها ما يتعلق بالقيادة- بذات رباطة الجأش والانضباط..
لقد مثل أبو عمار طوال أكثر من أربعة عقود الرمز الذي تلتف حوله كافة القوى الفلسطينية، وصحيح أن الرجل كان يحظى بأصدقاء كثر بين القيادات الفلسطينية لكنه في ذات الوقت، ووفقا لطبيعة التوجهات السياسية كان على خلاف مع بعض القيادات إلا أن ذلك لم يشكل عائقا في سبيل جمع الشمل والاتفاق على الثوابت الفلسطينية التي أكسبت هذا النضال مرجعية قوية وعززت استمراريته طوال أكثر من خمسين عاما..
ولعل أحد أبرز مناقب أبي عمار أنه أتاح تسلسلا في القيادة جعل من السهل عليها ألا تقف كثيراً عندما يغيب الأشخاص، حيث يستجيب البناء القيادي لدواعي ومقتضيات العمل المؤسسي الذي تنتفي معه الحاجة إلى الاعتماد على الأشخاص، لأن أكثر ما يهم هو انسياب العمل وفقا للأنظمة، ورغم ذلك فإن القدرات الشخصية هي التي تجعل هذا الانسياب يسير وفقا لما هو مطلوب منه.. لهذا ولغيره فقد كان أبو عمار قائداً ذا سمات خاصة فهو ارتبط بالقضية منذ أيامها الأولى ومنذ ريعان شبابه ونما وترعرع واشتد عوده سياسيا في ظل مراحلها المختلفة، فهو والقضية متلازمان ولا تذكر فلسطين إلا ويذكر ياسر عرفات، غير أن قيادة عرفات سمحت بظهور قيادات أخرى للفصائل لا تقل تأثيرا، بينما استأثر عرفات بالدور المحوري الذي تلتف حوله جميع القوى، وهو دور لم يحد من تطور القيادات الأخرى..
ولهذا ولغيره من قدرات تميز بها عرفات فإن الرجل عبر بنجاح إلى بر الأمان متجاوزا مؤامرات إسرائيل المتواصلة لإبعاده من مسرح العمل السياسي وهو سعي إسرائيلي وجد دعما قويا من الولايات المتحدة التي ناصبت أبا عمار العداء الصريح انحيازا لتطلعات حليفتها، غير أن عرفات كان عليه في أحيان أخرى مواجهة التعقيدات الداخلية والإقليمية، وهو ميدان آخر أظهر فيه قدرا من الحنكة بحيث ظل على ما هو عليه الزعيم الأبرز لشعبه والقائد الذي لا يمكن تجاوزه في كل محاولات التسوية أو المحاولات التي تحاول القفز على الأسس العادلة للحل العادل والشامل..
|