استدرك جورجي زيدان كما يقول، على كتابه (الفلسفة اللغوية) ببحث تنبه له، وسماه (اللغة العربية كائن حي)، وأوقع فيه جُملاً جيدة، كان محلها البحث والترقب والتنقيب من أهل اللغة.
وأراد أن يقول فيه: إن اللغة كائنٌ كالكائن الحي، تولد اللفظة منها كما يولد الحي فيكبر ويستقيم عوده، ثم يذبل ويموت وينتهي، وكذلك اللغة..
تولد اللفظة منها، فتبقى حية قائمة تستنشق من هواء ألسنتها نَفَس الحياة، ما دامت عالقة في ثنايا أصحابها، ثم قد يتكفل الزمن بدثرها وهلاكها كما يهلك الكائن الحي.. وأورد جورجي زيدان أمثلة كثيرة على ذلك. والحقيقة أن هذه المقالة لم أتجرأ لكتابتها على أسس نقدية لعين الكتاب، ولا لقلم الكاتب، ولا على تحليلٍ عكوفٍ على ما جاء به، إلاَّ أنه ختم كتابه هذا بفصلٍ أسماه الخاتمة وليته ما كان الخاتمة، بل كان القاصمة...
لأنه كان يرمز في أحشاء كتابه على فكره، وفي الخاتمة أطلقها صريحة مدوية، حين قال:
(فاستعمال اللفظ المولد خير من إحياء اللفظ الميت، واستبقاء المولود الجديد أولى من إحياء الميت القديم.. وإذا عرض لنا تعبير أجنبي لم تستعمل العرب ما يقوم مقامه، لا بأس من اقتباسه...) ثم قال: (وإنما يؤخذ منها بقدر الحاجة، على أن نعد ذلك الاقتباس نمواً وارتقاءً، لا فساداً وانحطاطاً).
أيعقل أن نسلم بهذا الكلام تسليماً يجرفنا إلى هاوية تسحق اللغة وتقتلها، كلام جريء، تجرأ جورجي بكل بساطة، بل نظَّر إليه، وتحذلق به كثيراً، وما يصبر عليه العربي فقد ضيّم اللغة، وأراد أن يخرسها، وهيهات... وهيهات.
***
وما كان عمل ودأب المجامع اللغوية حتى كادت أن تكلّ سواعد أهلها النبلاء..
إلاّ إلى خلاف رؤية جورجي، فأحيت قديم الألفاظ من قبورها، وحرضت الكتّاب إلى التمسك بقواعد القديم وألفاظه وفنونه، وإعادة روح الحياة إليه.
فمن أجلّ عمل قامت به لجان المجامع اللغوية، أن أوجدت مرادفات من اللغة العربية للمصطلحات الأجنبية والمخترعات الحديثة، ومجّت الاقتباس، وساعدت الكتاب على نبذ الدخيل والمولد.
ولم يكتفِ جورجي زيدان بقبول المولّد أو الدّخيل فحسب، بل جعله نمواً وارتقاءً، لا فساداً وعاراً.
فجورجي زيدان بعيد كل البعد عن القرآن ولم يطلع عليه، ففاته سر الإبداع في تمكنه من الكلمة. التمكن الذي يؤصلها ويبقيها دون اهتزاز أو دثور.
وهو الحافظ الأول للغة العربية، ومن التصق قلبه بألفاظ القرآن يكون أقرب حباً وشغفاً بألفاظ العربية الأصيلة، هكذا أقر العلماء ورئي بالتجربة النظرية والتطبيقية. وفي ظني إن بعد جورجي عن القرآن جعله يدعو إلى قبول المولد والأجنبي من الألفاظ، وهذه دعوة باطلة، إذْ دعا إليها كُتّابٌ من اللغات الأخرى، فرموا لغاتهم في مهلكة ونقص، وتلون مستمر، وسمحوا للدواخل على لغتهم، فساحت ممحوقة في الحضيض، إذ نرى أن اللغة الإنجليزية - مثلاً- قبل ثماني مائة سنة غيرها الآن . لأنهم لا يجدون لهم حافظاً للغتهم يكون عوناً لهم، ولم يجدوا مرجعاً مركزياً إلى الفصل في أي خلاف يقع بينهم، أو سد منيع يقيهم من تيارات هوجاء على لغتهم.
جورجي زيدان يريد بلغتنا الهلكة والضعف والتلون، كما أصاب غيرها.
{فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (64) سورة يوسف.
***
بهذا يظن المرء، أن الجديد على لغتنا من ألفاظ تكون مستحسنة رائقة في اللسان والقرطاس، وكأنه يُطبق القاعدة المعروفة: (إن النفس إلى الجديد تواقة) فيحاول قولبتها على ألفاظ لغته، عابثاً بها، جائراً على لسانه، وبعض المتحذلقة والمتفصحين كثيراً ما يملون ألسنتهم بألفاظ غريبة مولدة جديدة، فيها والله من الغث على النفس، والنفور والوحشة الكثير الغفير.
ما أجمل اللغة المطرزة بأصيل اللفظ، وعميق الجذور، وسلامة المتن، وقوة السبك. وأن مَنْ لم يتغّنَ بأصله فلا خير فيه.
عبد الكريم بن علي النقيدان
|