لا أدري لأكتب هذا المقال كم عليَّ أن أمارس من ضبط النفس ومعالجة أصابعي من حالة العصيان على الكتابة ، غير أن من حسن الحظ أننا نعيش الأيام الأواخر من الشهر الفضيل ، فلعلي أهتدي بقبس للتحلي بشيء من الأخلاق الرمضانية في الصبر وكظم الغيظ والاحتساب ، فأنجح ولو جزئياً في الخروج من حالة الإحباط ومن حالة القهر ومن حالة القلق والحنق ، التي لا تلفني وحدي ولا تلف الوطن العربي والعالم الإسلامي وحدهما ، بل تلف كل مَنْ له ضمير يوخز ، وعين ترى في قارات الأرض والعواصم العالمية بعد الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
ففي الوقت الذي يستعد فيه الحزب الجمهوري للإدارة الأمريكية لاستئناف دورة جديدة للحكم بعد تلك الانتخابات التي خولته الاستمرار في السلطة لأربع سنوات أخرى ، فإن (أشباح الغضب) أو على قول إخواننا في مصر (أسياد بمعنى/ عفاريت) الاحتلال الأمريكي شرعت في ارتكاب مذبحة جديدة أخرى في الفلوجة ، لتضاف إلى مسلسل جرائم الحرب التي ترتكبها أمريكا في العراق تارة باسم محاربة الإرهاب وأخرى باسم نشر قيم الديموقراطية الأمريكية ، وتوزيع حلوى حقوق الإنسان على جثث أطفال العراق الذين قتلتهم قنابلها العنقودية السلمية ، وكأن إدارة بوش لا تكون تمثيلا أمينا لنهج المحافظين الجدد التعصبي (التطهيري) ، ما لم تمهر بداية الفترة الرئاسة القادمة بمهر دم الأبرياء ، فمذبحة الفلوجة ليست إلا تتويجا لتلك (النتيجة) الانتخابية المخيبة لكل أحلام إحلال العدل والسلام في العالم.
ولعلي للأمانة أذكر أنني لست وحدي من يرى هذا الرأي ، ولكنه الاستنتاج المنطقي الذي توصلت إليه عدد من الكتابات المتابعة للشؤون السياسية بشيء من الفراسة المحايدة ، سواء في تلك الصحف العالمية التي نشرت صفحة كاملة سوداء ليس فيها إلا كلمة ساخرة واحدة عن الانتخابات كصحيفة الإندبيندينت ، أو في عدد من الكتابات والتعليقات النقدية في وسائل الإعلام الأخرى ، أو حتى في رسائل (الإيميل) من بعض الأصدقاء الأمريكيين والغربيين أنفسهم ، مثل تلك الرسالة التي وصلتني من صديقة من الدنمرك تقول فيها : (يا إلهي أربع سنوات أخرى من الخراب لا أصدق ، الانتخابات الأمريكية لا يمكن أن تكون شرعية ما لم تدلي بصوتها فيها كل شعوب العالم ، فانتخاب رئيس أمريكي لم يعد شأناً أمريكياً داخلياً ، بل إن الأمر في الوقت الحاضر مع الأسف بمثابة تنصيب رئيس للعالم ، ان رئيساً لم ننتخبه يقود قوى المجتمع الدولي المحبة للسلام إلى الهاوية ، فأي دكتاتورية تجرنا أمريكا لها بعد الحادي عشر من سبتمبر باسم الديموقراطية وتحت رايتها ؟! لقد أطفأت الانتخابات الأمريكية الأخيرة آخر بصيص في عصر الأنوار الذي كان.
وعدا عن ذلك الشجن الشخصي الذي له صوت التفجع الجماعي لأغلبية غائبة أو مغيبة في عالم اليوم المعاصر ، نجد صبيحة اليوم الأول التي تلت الإعلان النهائي لنتائج الانتخابات الأمريكية وفي الأيام التي تلته ، بل وفي الأيام التي سبقته جدلاً عريضاً يجري على هامش الحدث في أمريكا نفسها وفي بقاع أخرى من أوروبا والعالم ، معرباً عن آراء ورؤى (انتقادية) و(متحفظة) على إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي الجمهوري ، إذ رأت فيه تكريسا للنهج الأمريكي الكارثي نحو المزيد من إغراق العالم بحمامات الدم والدمار ، وإن كانت تلك الآراء قد ضاعت أصواتها أو لم تصل إلينا .. وقد جرى التركيز وإعطاء الصدارة في كثير من الصحف العربية خاصة على تلك الخطابات الرسمية في العواصم التي سارعت لتهنئة بوش الصغير ، خوفاً مما قد تحمله ولايته الجديدة من ويلات جديدة على مناطق بعينها من العالم أو طمعاً في مشاركته شيئا من كعكة التفاح الأمريكية.
فلم يكن الكثيرون مثلي مثلهم ممن لا تكف ضمائرهم عن تعذيبهم بسبب اختلال ميزان العقل والعدل في العالم ، يهمهم نجاح (كيري) على (بوش) أو نجاح الحزب الديموقراطي على الحزب الجمهوري ، لأنهم رأوا أو سمعوا في الحملة الانتخابية وفي الخطابات الترويجية لأي منهما ، ما يرجح كفة الديموقراطيين على الجمهوريين في تقديم ضمانات مطمئنة بمستقبل إنساني أفضل تسوده التعددية العالمية بدل القطبية الأمريكية ، والحكمة بدل سياسة الانتقام والسلام بدل الحروب واستعراض العضلات العسكري في إدارة الأوضاع الشائكة على المستوى الدولي ، فقد كان الفارق بين الحزبين تاريخياً وخصوصاً في الموقع من سياسة أمريكا الخارجية ، وما يخص منها قضايا الوطن العربي على وجه التحديد فارق نسبي ، وطالما لم يكن النظام الأمريكي يتسع في تنافس القوى الاجتماعية والسياسية الأمريكية على السلطة ، إلا لتنافس الحزبين الجمهوري والديمقراطي - وذلك سؤال آخر مسكوت عنه تاريخياً في طبيعة الديموقراطية الأمريكية ككل - ، فقد كان توقع أو إن شئنا الدقة أمل العديد من القوى العالمية الناقدة لسياسة الإدارة الأمريكية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر ، وخاصة في حربها واحتلالها غير المبرر للعراق بفوز الديموقراطيين على الجمهوريين ، ليس تأييداً لكيري وحزبه الديموقراطي بالضرورة ، أو للمفاضلة بين السيئ والأسوأ كما يقول بعض الإعلاميين ، بقدر ما كان أملا في أن تكون الانتخابات فرصة للشعب الأمريكي ، ليسقط سياسة بوش العسكرية التي تقود أمريكا يومياً وعلى المستوى الداخلي وليس الخارجي وحسب لمزيد من الخسارات المالية بميزانية الحرب ، والبشرية بمقتل الجنود الأمريكيين ، والإنسانية بنشر كراهيتها والعداء لها في العالم.
أما لماذا لم يقل 54% من الشعب الأمريكي لا لاستمرار سياسة الخسارات الفادحة في حق الشعب الأمريكي وليس في حق المجتمع الدولي وحده ، لا لكسب المزيد من الكراهية في العالم ، لا لتكرار فيتنام فذلك هو السؤال الذي لا بدا أنه سيظل لسنوات تأتي يتصدر الكثير من التحليلات الفكرية التي لا تكتفي بالمسلمات ، وخاصة فيما يخص مسألة حيوية مثل مسألة مستقبل الديموقراطية ومساراتها أو انتكاساتها ، وإن لم تأخذ الانتكاسات نفس الأنماط التقليدية في الانقضاض على قيم الديموقراطية.
بقيت نقطة أخيرة لا أستطيع ولا أطيق عدم الوقف عندها قبل أن أختم هذا المقال ، وإلا لطققت من الغيط وهي تلك المتعلقة بنا كعرب وكمسلمين .. فكم يبدو موقفاً ساذجاً حد البلادة ومخاتلاً حد التخاذل ، أن يعتقد البعض ممن هم عرب ومسلمون بدفتر الهوية ليس إلا ، أن فوز الحزب الجمهوري بفترة رئاسية ثانية وعودة بوش ، هي انتصار لنهج الإصلاح الديموقراطي بالمنطقة عن طريق الضغوط الأمريكية ، فهل حقا بيننا من لا يرى في الهجوم الأمريكي الهمجي على الفلوجة وما سيأتي بعدها إلا حملة تأديبية ، لابد منها لتخليص الذئاب الوادعة من عصيان الحملان المتوحشة ، ليتسنى لهم الشروع في الانتخابات العراقية وإقامة جنة الديموقراطية الأمريكية على الأرض العراقية ؟ هل حقاً بيننا من يرى أن أمريكا يمكن أن تهدي لمجتمعنا العربي (جوهرة الديموقراطية) لوجه الله ، دون أن يروا ما ينطوي عليه موقفها في ابتزاز الأنظمة من نظرة متعالية على شعوب المنطقة ، هل حقاً هناك من يستطيع التعامي عن حقيقة أن الديموقراطية ليست مطعم مكدانولز أو ستاربوكس لتأتي أمريكا وتحمله إلينا ؟ لكنها عملية مجتمعية لا تباع ولا تشترى وإنما تبذر وتخدم بكد اليمين وعرق الجبين.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|