يخطئ من يظن ان النقد يعيش على هامش العمل الأدبي الإبداعي ، ويخطئ أيضا من يقول ان النقد يكتفي بتشريح العمل الأدبي ، يقصد تفسيره وكفى .. أو من يقول : إن النقد تعليل وتفسير للعمل الأدبي ، واذا أخذ النقد بذلك ، أو بشيء منه ، فانه أبعد من ان نطلق مثل تلك التعابير عليه.
فالنقد أولاً هو الإحساس بالجمال في العمل الفني .. هذا الجمال الذي لا ينظر إليه من زاوية واحدة ، وإنما لا بد ان ينظر إليه نظرة شاملة ، وإلا لما صح ان نتصور الجمال مثلا في الشكل أو الإطار ، دون المضمون .. ذلك ان العمل الفني وحدة متكاملة ، لا تنضج تجربته بعامل دون الآخر .. فإذا أحس النقد بالجمال ، فان ذلك يعني الخطوة الأولى إلى الانفعال بهذا الجمال ، الذي يعبر عنه العمل الفني .. وبعد ذلك يتحول عمل الناقد إلى عمل إبداعي نتيجة لهذا الانفعال الحاد بالعمل الفني ، وبما فيه من جمال شامل لابعاد التجربة الفنية فيه.
وفي هذه الحالة ، لا يعترف النقد بأية مقاييس ، انه حينئذ يحطم كل الحواجز .. لينطلق محلقاً مع العمل الفني ، في آفاقه الإبداعية .. ومتى كان للعمل الإبداعي الفني ان يقنع بالسقوط تحت أسوار الحدود الضيقة ، التي تتمثل في المقاييس الجامدة ..؟ فلا يحق إذن للعمل النقدي ان يقنع هو الآخر بأن يقبع تحت الأسوار التي يتجاوزها العمل الإبداعي.
من هنا كان قول الناقد الكبير (هدسون) ان هناك نقداً إبداعياً .. ذلك - كما يقول - (ان الناقد يقوم بتفسير شخصية كاتب عظيم ، كما تظهر في نتاجه ، وبتفسير هذا النتاج في جوانبه المختلفة ، بوصفه تعبيراً عن الرجل نفسه - هذا الناقد يتناول الحياة بحق ، تماماً كما صنع الشاعر أو الكاتب المسرحي الذي كانت كتابته مادة لدراسته ، فالكتاب العظيم شيء حي كالعمل العظيم ، والعمليات الأدبية لها من الحيوية لما لتلك العمليات التي يتضمنها أي نشاط آخر من جوانب النشاط المختلفة في الحياة.
ان النقد الحق يأخذ مادته وإلهامه من الحياة كذلك ، وهو كذلك إبداعي ، ولكن بطريقته الخاصة ...) .. ويلوح ان مما يعنيه هدسون في كلامه هذا ، ان النقد الذي يلاحق عملاً أدبياً كسيحاً يصور ما هو موجود في محيط الحياة ، كعدسة المصور التي تطبع صوراً جامدة .. ليس عملاً إبداعياً ، وإنما يجب على النقد في مثل هذه الحالة ، ان يتخطى ذلك الجمود ، إلى البحث عما يمكن ان يحدث عما يمكن ان يكون ، لا عن الشيء الذي كان .. وهذا هو مجال الفن الحي الذي يسابق تجدد الحياة.
ان على الناقد ان ينفعل بالحياة انفعالاً حياً غير جامد .. وان لا يعترف بأي عمل يقبع تحت الأسوار .. ان على النقد الأدبي لكي يحقق له أيديولوجية جديدة .. ان يبحث عن مناطق الإبداع في العمل الفني .. ويعانقها في امتزاج حاد .. وإلا فانه سيبقى عملاً هامشياً لا حاجة إليه.
|