فضائية الجزيرة وصلت بفكر مدروس إلى أن تكون أحد المنافسين على المرتبة الأولى بين الفضائيات العربية.. وتزاحمها على ذات المرتبة فضائية العربية، والأم. بي. سي، ودبي، وأبو ظبي.
يقول المناوئون لفضائية الجزيرة إنها وصلت إلى شريحة هائلة من المشاهدين العرب.. بفكر يعتمد على مخاطبة العاطفة والانفعالات التي تشكل سمة من سمات الشعوب عامة، حيث تغلب العاطفة على العقل وهذا ما استثمرته قناة الجزيرة لجذب المشاهد.
أما المشكلة فتكمن في اضطرار الفضائيات الأخرى (الحكومية والخاصة) على المزايدة.. مراعاة للدهماء.. وهذا قاد نسبة عالية من المجتمع للسير مع الركب.. وقبول المنطق الغوغائي.. وتم بذلك توجيه المجتمع وجهة غوغائية جاهلة لا تهدف لمصلحة عامة.
دخلت الفضائيات الإخبارية العربية في صراع أشبه بالمزايدة على اجتذاب المزيد من المشاهدين من ناحية وعلى استرضاء أكبر القوى الفاعلة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً في المنطقة العربية من ناحية أخرى.. فأوقعت نفسها بين هدفين متعارضين جعلها تفتعل المواقف في كثير من الأحيان.. للغناء على أوتار الوجع في قلب المشاهد.. واتضح اختلاف المفاهيم لدى الجمهور مع البرنامج الجديد على أذن وعقل المستمع العربي برنامج (استفتاء على الهواء) الذي أجرى استفتاء عن من هم الذين وراء تفجيرات 11 سبتمبر.. هل هي القاعدة أم آخرون؟.. والمقصود بالآخرين.. الإسرائيليون طبعاً.. وكانت معظم الإجابات أنهم الإسرائيليون.. وفي حلقة أخرى كان السؤال عن ذبح المختطفين وجز رقابهم كما يفعل الزرقاوي.. وكانت الإجابة وفي معظمها أيضاً بالموافقة على الذبح؟!
في الاستفتاء الأول أفهم ذلك الميل الطاغي باتهام الإسرائيليين فهم المستفيد الوحيد من 11 سبتمبر.. ولا أكون مجاوزاً إذا زعمت أنهم المستفيد الوحيد دائماً من كافة أوجاع العالم وأفراحه على السواء.. لكني عجزت عن فهم مدلول الاستفتاء الثاني.. فهو ينم عن غياب الوعي.. وعن فكر منحرف يسير في طريقه لتأكيد أو لتأصيل الأفعال الإرهابية في ثقافة المواطن العربي لتقديم برهان واضح على إرهابية الفكر العربي الإسلامي ومسؤوليته عن كل مشاكل العالم.. وهي التهمة التي خصصت الحكومات العربية والإسلامية الكثير من جهدها لدرئها عن نفسها وعن مواطنيها.
مهما كانت المبررات التي جعلت أغلب المتصلين يصوتون لصالح هذا الفكر المنحرف.. فإني أتهم المسؤولين عن الفضائيات بتغييب الوعي.. بل وأتهمهم بأنهم أسهموا وبشكل فج متسلط في ترسيخ رأي العوام على أنه الرأي العام.. وهذه كارثة أخرى سوف تمتد نتائجها إلى أبنائنا وأبنائهم من بعدهم.
دعونا ننظر إلى التغطية الإخبارية عن العراق.. ثم ننظر إلى توجهات الإصلاح في المنطقة.. وكيف يتم تقديمها إعلامياً؟
في العراق.. سحق المجتمع طوال الأربعين عاماً الماضي.. حتى صار أمل الخلاص في ذهن أهله لا يأتي إلا من الخارج.. وفعلاً أتى من الخارج.. ثم لم يترك هؤلاء الغوغاء لشعب العراق العاقل فرصة العمل مع المحتل وتكرار تجربة اليابان وكوريا وألمانيا.. بل عاجلوهم بالتفجير والاختطاف والتهديد قبل أن تبين النوايا.. وحتى بعد انسحاب المحتل إلى مناطق معزولة.. فلا زال التفجير والتدمير والقتل والخطف متواصلاً.
واليوم وبتأثير من الفضائيات العربية أستطيع أن أقول إن فئة كبيرة من الشعب العراقي خصوصاً والعرب عموماً ينظرون بارتياب إلى الحكومة العراقية.. لا لشيء.. بل لأن هذه الحكومة تكونت في ظل وجود احتلال.. فالغوغاء لا يريدون حكومة طالما أن هناك احتلالاً حتى لو خربت البلاد وهلك العباد.
لقد اختصر هؤلاء الغوغاء مصير أمة في وجود احتلال.. مع إيماننا بأن وجود صدام كان كارثة على العراق أكثر من الاحتلال.. وإيماناً بأن الشعب العراقي قادر على أن يتعامل مع الاحتلال سلمياً كما فعلت كوريا وألمانيا واليابان.
شعب العراق جرب الانقلابات.. وانتهت قياداته بين الإعدام بالرصاص والسحل في الشوارع وتفجير طائرة ونفي إلى الخارج.. وأخيراً إلى تخدير في حفرة.
وتعرض في عشرين عاماً إلى ثلاث حروب مدمرة مهلكة.. وإلى حصار دام ثلاثة عشر عاماً.. انتهى بالاحتلال.. هذا الشعب تعرض للقهر ولفترة طويلة.. وسوف يحتاج إلى فترة أطول كي ينهض.. وهو في أغلبه يائس لم يعرف سوى الدكتاتورية المتحكمة المخيفة.. وهذا سوف يعني أشياء كثيرة منها أن شرائح كبيرة من المجتمع سوف تكون أكثر ميلاً للغيبيات والروحانيات.
وفي ظل الخطاب التأليبي الذي يردد في الفضائيات عن عدم القبول أو التشكيك في الحكومة العراقية زادت فعالية وقدرات بعض القيادات الدينية والغوغائية، الأمر الذي سيقود إلى عدم استقرار طويل.. مردوده على المنطقة سوف يكون سيئاً جداً.. فمحاربة قيام العراق الحديث تحت أي مبرر جريمة في حق العراق وصميم الإنسانية.. ولا شك أن القائمين على تلك الفضائيات يعونها لكنهم في مزايدة دائمة وسباق لاختطاف المشاهدين بدغدغة مشاعر الغوغاء.. ومحاولة تكوين رأي عام مبني على عواطف وقتية.. وبشكل يزيد الهوة بين العرب والعرب وبين العرب والعالم الخارجي.
|