عندما يكون الحديث عن الوطن، فإن الحبر على الورق مهما انتثر وسطر أجمل المعاني وأرق الكلمات المقرونة بالحنان الجمّ، إلا أنه حتما لا يفيه حقه؛ لأنه هو الذي منحنا الحنان الوارف حينما أضحى الأمان سمة بارزة ونحن نستظل بعز هذا الوطن المعطاء، هذه القامة الباسقة ليس فقط في انعكاسه على استقرارنا، والشعور الغزير بالطمأنينة والإحساس الملتصق بحب هذه الأرض المباركة، فلو نسيت باب بيتك مفتوحا، فإنك ستلحظ أن الهواء والشمس فقط هما اللذان دلفا، وهذه من نِعَم المولى سبحانه.. وما زلنا، وسنظل، فخورين بقيم تجسد ترابط القلوب في مجتمع محافظ حباه الله هذه النعمة، التي يتوجب علينا أن نقدرها حق قدرها. وإذا كنا مفخرة الأمم بهذه الميزة المتميزة، فإنها نابعة من أصالة تأبى الانحناء، والخضوع لمؤثرات تتخبط ذات اليمين وذات الشمال لتسلب الشرف، على حين غرة، والشرف كامن في حبنا لهذا الكيان المترابط، أدام الله عزه وأمنه وأمانه. فالشرف لا يجتمع مع السرقة بحال من الأحوال، وسرقة الوطن رهن للشرف في مزاد بائس تعيس واختطاف للأمانة؛ إذ أن المواطن الشريف لا يسرق. ولا تقتصر السرقة باختلاس الأموال العامة، والرشوة، والتدليس وتبديد الأموال وتبذيرها فحسب، بل إن السرقة تتمثل أيضا بالجحود والنكران حين تسهم المفاهيم القاصرة في خلخلة الثقة بالنفس، وتزعزع هذه الخلخلة عمق الانتماء، لتلج الاستقامة أنفاقا مدلهمة مظلمة، وقتئذ يكون الشرخ مؤلما وموجعا، وكيف لا يمسي كذلك والأمانة قد رهنت لاستنتاجات انبرى لها الشك، ليحيلها إلى أثر بعد عين، وفقا لاستنباطات مكنت التعصب من تغليف مضلل وبائس، فمن يؤذي وطنه بأي وسيلة كانت لا خير فيه، ولم يكن للوفاء إلى كحاطب ليل، وصدق الشاعر عندما وصف عمق التصاقه وانتمائه وصدق محبته لوطنه وأهله وعشيرته حين قال:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ
وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام |
وهو يجسد الإخلاص، الذي بات في خضم التخرصات المبنية على سوء الظن وانتفاء النية السليمة أسيرا للشعور المبطن، المخادع، الذي يكتنفه النفاق والعياذ بالله من الرأس حتى أخمص القدمين. ولما كان السلوك مقرونا بالتصرف، مخالفا لما يدور في خلجات النفس، من تبييت للشرّ وإثارة للفتنة، والزج بالنقاء في أتون إرهاصات فكرية تراكمت وساهمت في نسج ازدواجية، تتفاعل وتتعاطى مع الأمور من منظورين مختلفين، فهي تبدو في الظاهر مهادنة مستكينة، تجاري المصلحة أينما حلت، وفي الباطن سرقة مقيتة عقيمة فجة.
والخداع المقرون بالتحايل الأخرق، ليس من مروءة الرجال ولا شهامة الشجعان، بل هو إفراز لشكوك ساهمت في صياغة مفاهيم معوجة، لم تتكئ على أساس قوي وثابت بقدر ما أتاح الخلط في المسائل وسائل ميسرة، في التشويش وفقا لاستنباط حائر وغير محكم، في حين أن اختلال التوازن أدى إلى انتفاء تقدير المخاطر، جراء هذه البلبلة مما أفضى إلى غياب التشخيص الدقيق، عندما أقحم الورع في التنطع في خلط عجيب غريب إمعانا في اعتساف النصوص، ولي أعناق الأدلة البيضاء الناصعة، وسواء كان الوهم أو الإيهام، عنصر المكابرة في هذا السياق، فإنه لا يبرئ ساحة من امتطى صهوة الريبة، ليقذف بالأحكام، تلو الأحكام، غير عابئ بتبعات هذا الأمر ومغبته، وهو يسرق الأفكار ويبوب الأدلة، عطفا على استنتاجات، لم تصب بحال من الأحوال كبد الحقيقة، بينما استمد مكابرته وغروره على ضوء قدرته في الإقناع وتمكنه من استمالة الشباب بأسلوب مؤثر، والعبث بعقول الناشئة، مسوغا له هذا الأمر الولوج في هذه المسائل الخطيرة، وهو الذي سيقف أمام البارئ عز وجل يوم تشقق السماء بالغمام، حينئذ فإن الحِمْلَ سيكون ثقيلا، والورع هو الابتعاد كل البعد عما يكسب النفس إساءات وإلحاق الأذى بالآخرين أيا كان نوعه أو تضليلهم، وفي هذه الناحية بالذات كان حضوره أوجب، ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة، فكلٌ يحيل الإفتاء في مسألة معينة إلى الآخر خوفا وخشية من الباري عز وجل، وتورعا؛ فربما مقولة الله أعلم قد تنجيك، ومن قال لا أدري فقد أفتى.. {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} لأن فيها من الخراب والدمار ما يهلك الحرث والنسل، بمعزل من جرأة، فنتائجها ليست محسوبة بشكل قاطع ودقيق، لكيلا يَضل ويُضل وأن يربأ بنفسه عن طرق هذه المسالك الوعرة ويتجنب الوقوع في المحظور، لاسيما وأن النفس ترغب في التميز والتفرد في جانب معين، فيما يمارس الحماس والحالة تلك دورا مشبوها، إزاء حالة اندفاع، تفتقر إلى الانضباط، وبالتالي تمكين الشهوة من فرط سيطرتها، لتصادر الهدف بسوء استعمال الوسيلة.
قال الشاعر:
إذا طالبتك النفس يوماً بشهوة
وكان عليها للخلاف طريق
فخالف هواها ما استطعت فإنما
هواك عدو والخلاف صديق |
|