الطقس بارد.. الشتاء في ذروته.. رياح هادئة محمَّلة بهواء بارد تكسو هذه المنطقة.. وجدته يبكي.. يمسح عينيه بمنديل ورقي.. واقفاً أمام إحدى زوايا ذلك البيت الكبير.. مظهره يوحي بآهات مختزنة في داخله.. بعبرات دائمة الاختناق.. (بفقدانه لكثير مما لم يفتقد لدى الكثير).. ينظر إلى الأطفال.. فرحين بعيد الفطر المبارك.. كل من هؤلاء يتباهى بزيه الجديد.. بحذائه النظيف.. بعطره الفواح.. بشماغه اللامع.. بطاقيته الغالية السعر.. بمعطفه الحديث الصناعة..ب.. ب.. ب.. وهو.. بثوبه القديم.. حافي القدمين.. يداه ترتعشان من برد قارس محيط بهما.. وقدماه مليئتان بالجروح من جراء المشي حافياً على أرض مؤلمة.. لا يملك قوت يومه.. ساكناً كأنه مجمد من ذلك الصقيع..
باستثناء يده التي تمسح دموعه بشكل متواصل.. أصوات ألعاب نارية من هنا وهناك.. تثير ضجيجا لمن لا يملكها وليس بحاجة لها.. تثير سعادة وفخراً لمالك هذه الألعاب والمفرقعات.. ولكنها تثير ألماً وحزناً لمن (يتمناها ولا يدركها)..
ينظر إليهم ودموعه تغسل خديه.. دموع تغسل همومه وفقره.. يحاول التقرب لهؤلاء الأطفال واللعب معهم.. فينهرونه ويزجرونه لعدم توافق مستواهم بمستواه..
عيناه.. تذرفان دمع الألم والحسرة والفقر على حاله وحال أسرته في هذا العيد.. دموع تسقط من عينيه تسطع عليها أشعة الشمس.. فتضفي بريقاً لامعاً لعينيه البريئتين..
يبكي دماً وألماً.. يشكو لربه الواحد القهار.. يشكو لنفسه.. يشكو لأي قلب حنون ينجده.. يبحث عن من يمد له يد المساعدة..
ألمح حركته.. يحاول تجميد عواطفه.. ينظر إلى ملابسه.. يحاول نثر الغبار وما علق عليها من شوائب.. كي يكون مظهره وملبسه يوحي بفرحة العيد.. يعاود النظر إلى أطفال العيد.. يجدهم على أي حال من الأحوال أفضل منه بمراحل..
فيعيد دمعاته إلى خديه.. دمعات مختلطة بتنهدات مؤلمة.. تنهدات موجعة.. تنهدات متكررة.. منظره يثير شفقة من لا قلب له.. تبصر عيني أمه من خلف باب البيت.. بيت قديم.. قضى عليه فيروس الفقر.. حتى أصبح كموطن للحيوانات الشاردة وبقية من بواقي سلات المهملات.. تتأمله أمه بنظرات أسى ورحمة.. يدها اليمنى ممسكة بالباب.. ويدها اليسرى تمسح عينيها بطرف عباءتها.. تنظر إليه وأفكارها تصارع ما يحل بها.. تنظر لفلذة كبدها.. تنظر لإحدى ضحايا الفقر.. تنظر لذلك الطفل.. منعته عزة نفسه من أن يكون متسولا.. من أن يطلب الناس.. من أن يكون عالة على المجتمع.. ك نبتة جميلة.. أجبرها القحط أن تموت ذابلة.. أنظر إليه من بعيد.. أحاول أن لا أتأثر بهذا الموقف.. أحاول تجميد قلبي.. ولكنه يعود إلى حاله.. يعود ذلك القلب لينبض الآهات.. ليتمزق ألماً على حال ذلك الطفل.. أبحث عن مخرج ليبعد تلك العبرات.. ولكنها تجبر عينيّ على الاختناق.. فتختنق تلك العبرات على ذلك الطفل تخالطها تنهدات مؤلمة.
لماذا يمر به هذه الاحساس.. لماذا تكونت هذه الصور في مخيلته وذهنه..
ااااه.. إلى هذا الحد وصلت قسوة قلب الإنسان وجبروته.. أن ينسى غيره.. أن يقطع يد العون لمن هم بحاجته..أن تكون أنانيته وحبه لذاته ونفسه دون الالتفات إلى إخوانه..؟؟؟
كلمة تذكرتها وسأرددها مرارا وتكرارا.. لو كان الفقر رجلا.. لقتلته..
فهؤلاء هم إخواننا.. وهم في أمس الحاجة لنا خصوصاً في هذا الوقت.. لتكتمل فرحة المسلمين بعيد الفطر المبارك غنيهم وفقيرهم..
ورجائي هو تلبية ندائي.
مع خالص التحية.
|