منذ أن أطلق فرويد نظريته الأصل عن نفس الإنسان، وأن نفسه لا تعرف إلا بمعرفة سلوكه؛ من هنا كشف لنا هذا العلم أسرار النفس البشرية بتعديل بوصلة التفكير الإنساني، عن النفس، بالاتجاه الصحيح.
وبعيداً عن الأكاديمية والمدرسية، والتنظيرات المملة فإن هناك بديهية ظل (الاجتماعيون) يؤكدونها وهي أن خط السير المروري هو الشريط الذي يبثه جهاز الرادار الذي هو صورة صادقة عما يعتمل في داخله.
ولا تخفى عنا تلك الحقيقة البائنة عن السير المروري في كل مكان، حيث نجد الأسباب الموحدة في أسباب الحوادث في كل منطقة وفي كل طريق تبعاً للعقل الذي يفكر به. وما السيارة إلا مطية يحركها الريموت كنترول المتعلق بمقودها. وعندما نريد معالجة الكوارث الرهيبة وغير المتناهية نبدأ بالعقل المفكر أولاً دون الابتداء بالتفاصيل المؤقتة عن الفحص وسلامة الطريق بالرغم من أهميتها القصوى.
وعندما تكون السيارة شيئاً طارئاً على مجتمعاتنا نسبياً، ولكون العقل الجمعي ليس صانعاً لها، وليست نتيجة لواقع عملي وإبداعي فإنها - بهذه الحالة - تؤخذ كمركبة غير خاضعة للمنطق الحضاري الذي نعيشه؛ فنحن (أخذنا قشرة الحضارة والروح جاهلية!) فما زلنا نتمشى كما تمشى أوائلنا بمراكبها كما تشاء بلا قيود مدنية، ودون شعور بحقوق الغير، حيث يضرب الراكب مطيته كيفما اتفق دون حس منطقي يستشعره في طريقه؛ فالآخرون يريدون حقهم كما يريدون هو. (أعط الطريق حقه..) حكمة قالها سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - كما تنبأ ب (نطق الحديد)، ولكن منطق الأنا هو السائد وهو المهيمن.
والمدينة عندنا حدث حضاري مادي فاقد معناه الفكري؛ فلا شك أننا حديثو عهد بها، وما زال التفكير المفتوح لتوقعات شتى هو طريق يسير فيه العقل السائد، فلا ننتظر بمعالجات قشرية تنفع بشكل مؤقت كحبة الإسبرين ، بل بمعالجة المصدر الأساس، وبترويض منابع التفكير التي تجعل الشارع يسير كما تسير الآلة دون أن يقفز عنصر على آخر. وإذا ما حدث ذلك أصبحت كارثة تحصد أعداداً لا حصر لها من الأرواح البريئة في حين يجب ألا يحدث، فالسبب تافه والنتيجة مؤلمة ومفجعة..!
والمتأمل للمسرح من أول نظرة يلقيها المتأمل على الشارع بدءاً بالإنسان الذي يتحرك بمشيته على قدميه حيث الاستجابة الجسدية بما يمليه عليه ذهنه. وبما أن الأول يقال (تكلم حتى أراك) إلا أن ذلك لا يترتب عليه حوادث مرورية تودي بحياة الإنسان!
أمثلة ومشاهدات فنتازية مثيرة للدهشة ومتكررة إلى أن أصبحت عرفاً يومياً يمارس دون اكتراث أو وازع من ضمير حتى تعورف عليه لدى الصغير والكبير والوافد..!
والسرعة دون التفكير بالعواقب هو فقدان للنظرة المستقبلية.. والتفكير باللحظة الآنية الممتعة تعارف عليه الشباب المتهورون فترة مرح وترفيه أوجبته المرحلة العمرية و(الدلال) و(البراءة) اللذان يعيشهما هذا الشاب!
ثم إن كون الفرد - عندنا - يمتلئ شعوراً بالكرامة وإحساساً بالفوقية، ثم يضطر لتقبل (أوامر الآخرين) في الطريق الذي يتبختر فيه؛ تلك التربية (الفردية) جعلته يقبل ذلك الأمر على مضض، مثلما يسير بهدوء، واطمئنان في المسار الأيسر فينبه للتنحي لليمين.. هنا تبرز الأنفة، ويبقى الرفض سيد الموقف، وتبقى المسألة مسألة كرامة! فيتجاوز الآخر من عند اليمين، أو ينتج عن العناد مشاكل أقلها استخدام المنبه في غير محله.
هذا ما يحدث في الطرق السريعة بين المدن وغيرها، بالإضافة إلى ذلك تتلفت يميناً وشمالاً في أجواء الترف التي نعيشها والسيارات الفارهة، تلمح في وجوه السائقين وعثاء السفر وإهمال حزام الأمان ونظرات قلقة وإحساساً بالنكد في لحظة يتمتع فيها بكل مقومات السلامة والاطمئنان! أو قد تجد فئة تستمتع في الطريق إلى حد البلادة؛ فلا شعور بما يجري في الطريق، فلا انتباه إلا عند الضرورة، أو قد يتمتع بالمشاهد المجاورة بمتعة الحفلات والعروض السارة.. فهذا مسطح أخضر.. يا سلام، وتلك إبل سائبة، وتلك جبال وو.. ثم قد تبين من عينيه نظرة ساخرة لآخر قد وثق حزام الأمان، أو ركز ناظريه بحرص صوب الطريق مهملاً ما عداه، أو استعمل إشارة التنبيه لانعطافه إلى اليمين أو الشمال! أو تلحظ صديقنا قد زج بنفسه في بحار من الرومانسية الحالمة، إلى غير ذلك من الصوارف المختلفة، ثم قد يحدث ما يحدث أمامه فلا انتباه إلا لحظة وقوع الحدث!
قد يكون للمزاجية التي تصرف، أحياناً، من توجهاتنا دور كبير في تحريك مسار القيادة إما بفترة استرخاء وتنزه، وإما بثري وصاحب مركبة فارهة أسدل ستائره السوداء فلا يرى للغير حقاً في أمره أو نهيه، وإما بمراهق أرعن مستعد للمنازلة واللعب بالطريق واستعراض مواهبه واختبار قدراته..!
تلك المزاجية قد تجعل آخرين يقومون بالنيابة عن آخرين بإهانة ضعيف ارتكب جهالة، أو ليموزين وافد، وهذا (جهد متبرع) يقوم به الموطن بالقفز على مسؤولية رجل المرور. وقد يستمر البعض بتجاوزاته بثقة نخوة لآخر لوقوف خاطئ لفترة قصيرة، أو تجاوز لخط سير المشاة، أو التأخر عن بدء السير بعد إعلان الإشارة للضوء الأخضر أو التجاوز بعد الضوء الأصفر، أو الفرملة المفاجئة، أو الانعطاف بلا استخدام الإشارة الصفراء.. كل تلك الأشياء قابعة في العاطفة الجياشة التي تحكمها وتعقلها منطقة التفكير المترهلة، بل قد يكون العقل في سبات لاستقبال المفاجآت والعجائب التي يمتلئ بها الطريق، ولا يمكن لعقل أن يتنبأ بها فالشارع العام أعجوبة وحده!
كل ذلك نتيجة غياب ثقافة الديمقراطية بصورة أو بأخرى وإرادة التفرد، والحرص على التملك والسيطرة على الشيء حتى في الشارع العام الذي هو ملك للجميع. والحل لا يكمن إلا في حشد الجهود الجبارة والضرب بيد من حديد على كل متساهل واعتبار ذلك إرهاباً لا يختلف عن غيره بالقضاء على أرواح الأبرياء، ثم خلق الثقة بين المواطن ورجل المرور، وإعادة تأهيله في العلاقات العامة، والتثقيف المروري بالممارسات التدريبية.
ومع أن وسائل الإعلام لم تقصر في التوعية المرورية إلا أن جهودها تصبح حبراً على ورق إذا لم تكن واقعاً ممارساً؛ فنحن لا ينقصنا التنظير ولا نعدم معرفة الخطأ من الصواب، والمحك ينتهي بالعمل، ثم إن الإدارة - إدارة المرور- يجب ألا تكتفي بالجهات المختصة من رجال المرور بل باستنفار كل فرد ومواطن لتصبح الدولة ثكنة للتوعية المرورية.
أدرك أن المسؤولين لا تنقصهم الدراية الكافية، لكن الأهم هو ترسيخ مبدأ الثقة بخلق التوعية الصحيحة القائمة على الأمان وطمأنة الآخرين بالاحترام المتبادل، وتصحيح مسار التفكير وما في الأذهان من انحرافات وتصورات نحو الأشياء.. هنا تبدأ الآلة بقطبين لا يستغني أحدهما عن الآخر.
وأختم بقصة عن أحد المبتعثين إلى أمريكا، عندما عاد إلى بيته في منتصف الليل، ورأى المسافة طويلة في طريق ما؛ فرأى أن يختصر الطريق باتجاه معاكس، ففوجئ بامرأة عجوز تقف وسط الطريق وتفرد يديها إشارة إلى الرفض وطلب سلوك الطريق الصحيح..! مَن علم تلك الكبيرة هذا المبدأ؟! أترك الإجابة لصديقي السائق، وكل عام وأنتم آمنون.
|