لكي تتضح رؤيتي، ويتحدد مفهومي، أشير إلى أن همي منصب على تيسير التفاعل بين الأمة وسائر مؤسساتها.. وتوقعي أنه لن يتم التفاعل الإيجابي حتى تُهيأ الأذهان.. وتقوم الثقة والألفة، وتتم المعرفة، وتجسر الفجوات، وتُنقى الأجواء، وتتحقق الغاية من الشفافية.. ويقيني أنه لم يتحقق أيسر المطلوب.. ولقد سميت التهيئة والتجسير والثقة والمعرفة والشفافية ب( ثقافة المؤسسات)، وما أردت إلا التوفيق بين طرفي المعادلة: الإنسان والمؤسسة.. وما كنت في شأن من شؤون الحياة مثلما كنت في تطلعي لإشاعة (ثقافة المؤسسات)، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم، ولتكون الأجواء ملائمة، تتمكن في ظلها أيُّ مؤسسة في أي حقل: معرفي أو إجرائي من استغلال أقصى طاقاتها، وتحقيق رسالتها المنوطة بها، وتعويد الناس على انسيابية التعامل معها.
فنحن - مثلاً - أحوج ما نكون إلى إشاعة (ثقافة الانتخاب)، و(ثقافة الشورى)، و(ثقافة الحوار)، و(ثقافة حقوق الإنسان) بوصفها ذات مهمات طارئة، لم يألفها الناس.. وكل مؤسسة تمس الشأنَ المحليَّ ومصائرَه، وتنشق عنها طموحات العصرنة، تحتاج إلى مقدمات: معرفية وتأهيلية، تُمكِّن الإنسان من التصوُّر السليم لها، والتفاعل الإيجابي معها، وتثبت أفئدة المترددين في قبولها، وتربط على قلوب الوجلين.. وتزداد أهمية ذلك، حين تمارس الدولة مأسسة كلَِّ شيء أتت عليه، بما في ذلك ما يفضِّل المجربون تركه طليقاً كالمهرة في الفلاة، وبخاصة ثقافة: الفكر والإبداع.. والمدنية والحضارة لا يستوي وضعُهما، حتى تُضم الأشباه والنظائر إلى بعضهما، وحتى توحَّدَ المرجعيات، التشريعيةُ والتنفيذيةُ، وحتى لا يكون أمر الناس عليهم غمةً.
وحركة الإصلاح والتطوير والتغيير التي تخوضها الدولة على تخوف وتردد، لن تحقق أهدافها المضمرة أو المعلنة، حتى تمس أدمغة الناس وأفكارهم، قبل أن تمس أحوالهم.. فلكي تتخلص الأمة من الانفعال إلى الفعل، لا بد أن تعي الآذان الواعية ما يقال، وتتقبل النفوس المطمئنة ما يُفعل، وحتى يَثْقَف الناس المهمة والهدف وأسلوب التعامل لكل ما يجد.. والتحرف للإصلاح الإداري، تمخض عن دمج وإلغاء وإحداث.. وتلك خطوة وئيدة، تتجه صوب الإصلاح والتفعيل المنظم.. وإيقاع الدولة المتسارع في المأسسة، وتحديث الأنظمة وإحداثها، وانشغال مجلس الشورى بالأحداث والتعديل، يتطلب: مهاداً واستقبالاً واستيعاباً واستجابة.. وتحقيق ذلك مُرتهن بإشاعة (ثقافة المؤسسات) لتنشئة الثقة والمعرفة، ولتمكين المؤسسة من تلمس أيسر الطرق وآمنها إلى شرائحها المقصودين بخدمتها، وتوفير الإفادة والاستفادة، والتعريف بمجال الأداء، وحجم الانتفاع.. ومتى شئنا تضافر الجهود المتجانسة واستقطابها، وتأدية مهماتها بشكل جماعي منتظم، فلا بد من تيسير النظام للمستَهْدَف، وتسهيل المجال للفاعل، والتعريف بمحاذير الاعتزال.. وسبيل ذلك كله أو بعضه مادة (التربية الوطنية) التي لم يجوَّد إعدادها، ولم يفعَّل أداؤها، وسائر المنابر: الدينية والثقافية والإعلامية، التي ما فتئت تجتر قضايا ثانوية، وتسخن ظواهر باردة، وفي الأحشاء ما فيها من لهيب المشاكل المصيرية.
والمؤسسات غير الواعية أو غير المستوعاة، تتآكل مع الزمن، لأنها لا تزرع الثقة، ولا توطئ أكناف التواصل، ولا تحقق المراد بأيسر الجهد وأقل الوقت. وتلك خليقة الشعوب النامية، المصابة بداء الشكلية العقيمة، و(البيروقراطية) المعيقة.. ومصلحة المستشرفين للمستقبل، تكمن في رفض الاستسلام لتلك الخليقة.. وليس هناك ما يمنع الخلوص من تلك الأدواء المستوطنة، والتي أصبحت سمة بارزة في أداء العالم الثالث، والرقي بالوعي إلى مستوى المؤسسات، وتفعيل الواقع المعاش من خلالها، يتطلب الإلمام بأبجديات النظام والمنهج والآلية والمقاصد والمفاهيم، وهضم طبيعة المؤسسة ومهماتها.. وكم من مؤسسة كما البئر المعطلة، وكم من نظام مجهول أو معقد، وكم من تعليمات غامضة، عوّقت الأداء، وأطفأت وهج التفاعل.. وواجب المشرعين والمنفذين العمل على التفعيل والتعريف والتسهيل والتوضيح، ولا سيما أن ذلك كله هم وهدف كامنان في أعماق المشرعين.
إن قيام مؤسسات: دينية وشورية وأدبية واجتماعية وإعلامية وتربوية وادعائية وحقوقية وسياحية ومجالس عليا: للتعليم والاقتصاد والبترول والشؤون الإسلامية وأخرى لم تأت بعد.. وإنشاءَ روابط وهيئات وجمعيات ونقابات ومنظمات، يعني الاتجاه السليم صوب استكمال متطلبات المدنية والتحضر، وظهور المجتمع المدني، والاستعداد لمواجهة طوفان العولمة، ونوايا القطب الواحد، ومضمرات المشايعين له.. ولن يحقق الحراك المنظم هدفه المنشود، حتى يتوفر المُستهدف بهذه الخدمات على وعي سليم، وتمثل حضاري سديد، يستبعد الاعتزال والتعالي والتمارض واللامبالاة، ويوقف استفحال الأثرة، وينمي روح العمل الجماعي، أو ما يُسمى ب (روح الفريق الواحد)، وحتى يعرف القومُ ما هم عليه، ويفقهوا واقعهم على حقيقته، ويتصوروا إمكانياتهم الذهنية، وحجم مهاراتهم، ومدى توافق ذلك كله، وتكافئه مع حركة المؤسسات.. وكم نتابع الألعاب الرياضية الجماعية، وننظر كيف يتحقق النصر بالتفاهم والتعاون والانسجام، وتبادل المهمات والمواقع بانسيابية وفورية وتنسيق للجهود، ثم لا نعتبر.
إن فئات المجتمع في مضامير المؤسسات أشبه شيء بعمال المصنع أو بأفراد الفريق، لا تنتظم مهماتهم إلا بالتعارف والتعاون والتفاهم والتكتل.. ولن يظفر أي فرد أو جماعة بشيء من النجاحات المأمولة، حتى تقوم الألفة والمودة والثقة والإيثار بين الأفراد من جهة، وبينهم وبين المؤسسة التي ينتمي إليها كل فرد: عالِماً كان أو أديباً أو مفكراً أو معلماً أو عاملاً في أي حقل: معرفي أو مهني.. وأهمية الثقافة تزداد حين تستبق الدولة الزمن في سبيل التحول المؤسساتي.. والأطياف المتجانسة حين تثبطها اللامبالاة، أو يقعد بها الجهل، أو يعوقها الاسترخاء والتسويف، تقع في إشكاليات تعوِّق المسيرة، وتشل الحركة.. ولن يتأتى الوجود المثالي لأي مؤسسة إلا بالتحامها مع من أُنشئت من أجله، وتمكينه من إدراك رسالتها، وحدود مسؤوليتها، واستيعاب الأسلوب الأمثل للتعامل معها، والوقوف على إمكانياتها، وفهم نظامها، واحترامه، ومعرفة ما تقدر على تقديمه لذويها.. والمتابع لكثير من مؤسسات الحكومة المدنية، يحس أنها لا تستغل أدنى حد من طاقتها: إما لسلبية ذوي الشأن، أو لعملهم بمعزل عنها، واستغنائهم عن خدماتها.. وأضر الأسباب وأخطرها توهمهم أنها تشكِّل عقبة في طريق انطلاقهم، وتخوفهم من أن ارتباطهم بها مثبط لحركتهم، قامع لتصرفهم، مطامن لوجودهم.. وللتغلب على هذه الأحاسيس، تقع المؤسسة في مأزق التنازلات المخلة، أو الادعاء العريض، وقد لا تجد قبولاً ولا إقبالاً ولا تصديقاً.. وتناولي لهذه الإشكاليات، لن يكون رهين الإقليمية، فلقد تعوّدت التخلص من الاحتباس في الشأن المحلي.
وإذا كان الأقربون أولى بالمعروف، فإن للسياق العربي أثره، وليس بمقدور أحد أن يأوي إلى جبل يعصمه من أخطاء المتماسين معه إلى حد الخلطة.. فالعالم العربي بجملته يفتقر إلى هذا اللون من الثقافة، فيما تفتقر مؤسساته إلى الواقعية، ومرونة التعليمات، والشفافية.. والإنسان العربي: إما مُرْهِق للمؤسسة بتحميلها ما لا تحتمل، أو مجبول على مواجهة السلطة، والوقوف منها موقف المنابذ المتمرد، وليس موقف المناصح المعارض.. وأحسب أن هذه الخليقة بقية من رواسب الخطابات الثورية، التي زرعت في الأعماق العداء للسلطة، وأعني به العداء غير المبرر وغير المشروع.. مع أن الحضارة والمدنية لا يقر لهما قرار إلا في ظل سلطة قوية عادلة، وأمة واعية فاعلة. ومن ظواهر التعويق ما جبل عليه مؤسسو المؤسسات وواضعو أنظمتها، من مثاليات لا تطال، أو من تعليمات لا تُفهم، مما يؤكد على أن الإشكاليات عقبات مشتركة، وليست ناتج جهل وحسب، ومثل ذلك يتطلَّب المكاشفة ومواجهة التقصير بثقة وتحامي الإسقاط.
ومن المسلّمات أن كل نظام في الحياة له ثقافة: معرفية وإجرائية، تنظِّم أسلوب التفاعل المتبادل بين إنسانه ومؤسساته.. وما لم يتقن المجتمع ثقافة نظامه القائم، فإنه يدخل تحت طائلة الانفصام الشخصي.. ولا فرق بين الأنظمة في قيام الحاجة إلى الثقافة.. فالنظام من حيث هو، لا يتأسس إلى على تواطؤ، وتوافق، ورضا، يعقبها فهم واستجابة.. فلا قيمة للفهم بدون استجابة، ولا قيمة للاستجابة بدون فهم.
فالأنظمة السلطوية المستبدة.
والأنظمة العادلة القوية.
والأنظمة المدنية المتحضّرة.
والأنظمة البدائية المتوحشة.
والأنظمة المادية المتعلمنة.
والأنظمة الشورية المتأسلمة.
كلها لا تنهض من فراغ، ولا تعمل في فراغ.. إنها بحاجة إلى: مرجعية تقبل بها المجموعة، وتسلم لها على ضوء مستواها المعرفي وانتمائها الحضاري، وإلى أنظمة مفهومة يستجيب لها المستفيد، وإلى أمة عازمة حازمة تستمد من المفيد.. وحين ترضى الأمة بنظامها على أي شكل كان، يجب أن تمنحه المشروعية، وتتبناه في المنشط والمكره، وتتكفل له بالحماية والإشاعة.. وحين ننطلق برؤيتنا من مفهوم النظام، لا نتصوره طوباوياً مغرياً، ولا واقعياً محبطاً، وإنما نتصوره وجوداً فاعلاً على أي نمط، ونتلمس شكل العلاقات المتبادلة بين مؤسساته وأناسيه.
ولكل أمة ( عقدها الاجتماعي) الذي يحكم حراكها على كل مستوياتها: الدستورية والتشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية.. وكل كيان في بنائه الرأسِيِّ أو الأفقي، يصدق عليه المفهوم المؤسساتي، وإن تفاوتت ممارسته بين الفردية والجماعية، والكثرة والقلة.. وكل أداء منظم إن هو إلا علاقة متوازنة بين (الإناسة) و(المأسسة)، ومتى انفض سامر الناس من حول مؤسساتهم، لأي سبب مبرر أو غير مبرر، وسعوا وراء مصالحهم الذاتية بإرادة فردية، ولم يرضوا بما عقدوا الإيمان عليه، دبّ فيهم الضعف والوهن، وفشا فيهم الجدل العقيم، واستوت عندهم الأنوار والظلم:
(وما انتفاع أخ الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم) |
|