Monday 8th November,200411729العددالأثنين 25 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "شهر الغفران"

تطوّعوا تصحّوا تطوّعوا تصحّوا
د. يوسف بن أحمد العثيمين

التطوع بالمال والوقت والجهد والخبرة صفة إنسانية لازمت المجتمعات البشرية عبر العصور، وزكّتها جميع الأديان السماوية والأعراف الاجتماعية، ونُسجت حولها قيم الاعجاب والشهامة والنبل والنقاء والإنسانية.. والتطوع، من حيث هو فعل وتصرّف، يمنح الإنسان شعوراً عميقاً بالراحة النفسية، ويملأ جوامحه بأجمل معاني الحب والدفء والعلاقية مع أخيه الانسان.. ويأخذ التطوع أشكالاً مختلفة، تنظيماً وأداءً، بين عمل فردي عفوي يستثيره منظر طفل بائس أو عجوز يائس، الى عمل مؤسسي منظم يكاد لا يختلف في أسلوب ادارته عن كبريات شركات القطاع الخاص شفافية وكفاءة واستقراراً واستهدافاً لشرائح معينة من المجتمع تسمى العملاء أو الزبائن.
وعرف المجتمع السعودي التطوع، بل هو أصيل فيه من منطلقات دينية وانسانية واجتماعية وثقافية.. ولكنه ما زال فردي الأداء، عفوي التوجه، اغاثي الهدف.. وهذه الصفات معوقات معتبرة في سبيل الوصول للعمل التطوعي الخيري المنظم الذي من أبرز قسماته: المنهجية العلمية، والاستدامة، والشمولية، والشفافية، والثقة، والاستقرار، والانتشار، والانماء الشامل للفرد والجماعة والمجتمع.
هذا التوصيف للعمل الاجتماعي في المجتمع السعودي، وعدم مأسسته بالقوالب الحديثة، في الادارة المتخصصة للعمل التطوعي، يجعله محدود الأثر، وعرضة لزوابع الرغبات الشخصية، وحتى أحياناً انحرافاتها التي لا تخفى على فطنة المراقب لمسار العمل التطوعي في بلادنا.. من أجل ذلك ينظر الى العمل التطوعي المؤسسي بأنه خير ضمانة لاستقامة العمل الخيري، ونبل مقاصده، وسلامة توجهه.. بل وحتى من أجل نموه وتطوره واستدامته.
وإذا ما أردنا أن نعرف موقعنا على خارطة العمل التطوعي المنظم في العالم فأقرب وسيلة لتقريب الصورة الذهنية هي المقارنة، فلنستعرض جملة من الحقائق والأرقام عن القطاع التطوعي في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتوفر الاحصائيات، فقد بلغ عدد التنظيمات في القطاع التطوعي (1.2) مليون مؤسسة تطوعية، ودخل القطاع التطوعي (664.8) بليون دولار لعام واحد، وبلغت التبرعات (132) بليون دولار، وتمثل نسبة الموظفين في هذا القطاع (7.1) من مجموع السكان، ونسبة الأسر التي تبرعت (70.1%) أسرة من مجموع الأسر، وحجم التبرع الأسري السنوي (1.075) دولاراً، ونسبة من يتطوعون (55.5%) من مجموع السكان، وعدد من تطوعوا (109.4) ملايين متطوع ومتطوعة في السنة، وعدد الساعات التي تطوعوا فيها (19.9) بليون ساعة في السنة، وقيمة وقت المتطوعين (225.9) بليون دولار سنوياً، وبلغ عدد من يعملون بأجر في قطاع التطوع (106) ملايين موظف وموظفة.
ولو أسقطنا هذه الصورة (البانورمية) على مؤسسة بعينها، فلنأخذ - مثلاً - مؤسسة (الطريق المتحد) التي تعد واحدة من كبريات المؤسسات التطوعية في العالم حيث تضم (1400) فرع على مستوى المدن، وبلغت ميزانيتها للعام المالي 2003-2004م (4.4) مليارات دولار، وهي تبرعات جمعت من المواطنين ورجال الأعمال والبنوك، من أجل مساعدة المجتمعات المحلية، ومعالجة القضايا التي تواجه كل مجتمع على مستوى كل مدينة، ويعمل بهذه المنظمة (1.000.000) مليون متطوع.. وكل فرع من هذه المؤسسة يديره متطوعون من أبناء وبنات الولاية، أو المدينة نفسها.. وتهدف المؤسسة الى تحسين حياة الناس ومعيشتهم، عبر تنشيط قوة الاحساس بالآخرين، والشعور بمشاعرهم، وآمالهم وآلامهم، وأحلامهم وتطلعاتهم.
وتركز هذه المؤسسة على معالجة القضايا والظواهر المحلية التي تواجه المجتمع على مستوى كل مدينة، وتبحث عن الموارد المحلية المتاحة لها من المال والجهد والخبرة والمتطوعين، ويشمل ذلك جمع الأموال، وجهد الأفراد، ومشاركة رجال المال والأعمال والبنوك، وإمكانات وموارد قطاع التعليم من خلال المدارس وجهود الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات، وسائر فعاليات المجتمع المدني المتاحة.
وللمؤسسة خمسة مجالات رئيسية للتطوع، فالمجال الأول يعنى بمساعدة الأطفال والشباب (ذكور وإناث) على النجاح والتميز في حياتهم العملية، وما يتصل بمعيشتهم، وتعليمهم، ونموهم الفكري والجسدي، وعدم الايذاء الجسدي أو النفسي، والحرص على الأداء الدراسي، وعدم التخلف، وخفض عنف المدارس، والنشاطات اللاصفية، والمراكز الصيفية... الخ ما يتصل باحتياجات الطفولة والشباب، حسب ظروف واحتياجات كل بيئة.
أما المجال الثاني، فهو موجه لتقوية الأسرة، ومساعدتها على تجاوز كل ما يعترضها من معوقات اجتماعية واقتصادية وثقافية تعوقها دون قيامها بالدور المطلوب منها، مع القيام بجميع المهامات التوعوية التي تحتاجها الأسرة للبقاء متماسكة.
والمجال الثالث، يركز على تقوية الاعتماد على الذات في المعيشة والتعليم، والعمل وفرص الحياة، لكي يكون الفرد مواطناً منتجا معتمداً على قدراته الذاتية في طلب العلم والعمل وكسب المعيشة، ثم العمل على مساعدة الشباب والفتيات على البحث عن فرص التعليم والتدريب والعمل المتاحة لهم في إطار مجتمعهم المباشر.
ثم يأتي المجال الرابع، حيث يهتم بالعمل على تقوية مشاعر الجيرة، ومتابعة احتياجات الحي، وأمن المنازل والمرافق فيه، عبر مفهوم (مراكز الأحياء) الذي يقدم سلّة من الخدمات لأهل الحي، في مختلف الجوانب الاجتماعية، والاقتصادية، والترويحية، والرياضية، والثقافية، ومراقبة المنحرفين.
وأخيراً، المجال الخامس، الذي يقوم على رعاية الفئات المحتاجة من المجتمع المحلي من كبار السن، والمعوقين، والسجناء، وأسر السجناء، والأيتام، والأرامل، والمشردّين والمرضى، والمدمنين على المخدرات.. الخ.
وتقوم المؤسسة (الأم) بتقديم خدمات المساعدة والمساندة لفروع المؤسسة في كل ولاية، أو مدينة، أو مجتمع محلي، في الجوانب التالية: تقديم خدمات التدريب والاستشارة لفروع المؤسسة في مختلف المدن والقرى، والتوسط لدى الجهات الرسمية والأهلية والخيرية بمدّهم بما يحتاجون اليه من خدمات ومشورة وتسهيلات، وعقد المؤتمرات والندوات وورش العمل، وطباعة الكتب والمذكرات والتقارير، وتقديم خدمات البحث عن المعلومة والاحصائية على مستوى الدولة، والعمل على تحديثها بشكل مستمر، وتقديم أدوات علمية منهجية لتقويم الأداء في الفروع، وقياس فاعلية البرامج المقدمة التي يقدمها كل فرع للؤسسة على مستوى المدينة، أو المجتمع المحلي.
وتقوم فروع المؤسسة في كل مدينة، باجتذاب المتطوعين، والتعرف على عناصر القوة في المجتمع المحلي، والموارد المتاحة واقعياً فيه، وتمويل البرامج والمبادرات المحلية، ومحاولة العمل على تغيير أو تعديل، بعض الاجراءات الحكومية، أو غير الحكومية، التي تعوق تقديم البرامج الاجتماعية، أو خدمة الفئات المحتاجة.. وكذلك التعاون مع جميع الفعاليات والامكانات الرسمية والأهلية والخيرية الأخرى في سبيل تحقيق أهداف المؤسسة.
إن الشيء المميز والفعال في هذه المؤسسة أنها تطوعية 100%، وتعتمد على الشباب والفتيات في جميع فعالياتها، وهي، أيضا، توجه أغلب خدماتها لهم، كما أنها لا تقدم المساعدات والهبات المباشرة، كما نفعل نحن بالصدقات والزكوات والتبرعات، وإذا ما قامت بشيء من ذلك، فإن ذلك يتم في سياق برامج تنموية وانمائية للفرد والأسرة والمجتمع المحلي، سواء في مجال التعليم، أو التدريب، أو العمل، أو الصحة، أو التوعية والتثقيف الذاتي والمساعدة الذاتية ولعل سر نجاحها يكمن، أيضا، في عدم المركزية، فهي تعتمد في كل شيء على نشاط وتفاعل الأفراد والمجموعات على المستوى المحلي انطلاقاً من مبدأ (أهل مكة أدرى بشعابها).. ولذا تنجح مثل هذه المبادرات التطوعية سواء من حيث التمويل، أو من حيث حماس الناس، أو من حيث الأثر العميق الايجابي الذي تحدثه في حياة المجتمع المحلي، بدءاً من الطفولة وانتهاء بكبار السن في المجتمع المحلي، حيث تكون دورة (المال والجهد والبرنامج) محدودة النطاق داخل المجتمع الصغير، ولهذا يُحسّ الجميع بأثرها، ويرون مظاهرها، ويلمسون فعاليتها في الحال، ويشعر الناس أن (سمنهم في دقيقهم) كما يقال.
وللمنظمة شعار جميل يقول: إن المهم هو احداث أكبر قدر من التأثير المحسوس ذي المعنى، في كل مجتمع محلي عبر الوطن، فليس المهم كم فرداً ساعدنا، ولا كم برنامجا أعددنا.. المهم النتيجة هي:
(كم من حياة غيّرنا، وكم من مجتمع صغير بنينا).
ومع التسليم مسبقاً أن بعض هذه الأفكار قد لا تصلح، أو لا تطبق، أو لا تنجح في مجتمعنا.. المهم أن البشر هم البشر في كل زمان ومكان.. يتوقون لخدمة بني الانسان، ورعاية المحتاج للرعاية، ولدى كل انسان فطرة سليمة، مهما كان دينه ولونه وجنسانيته ومجتمعه ولغته وثقافته.. المطلوب هو أن نتحرك مثل الآخرين لدفع ثمن المواطنة، وشكر لنعمة الدين والأمن والرخاء، وخدمة هذا المجتمع، وأن نقوّي هذه الجذوة.. جذوة الرغبة في العطاء والاحسان والمشاركة والمواطنة، وقليل من نكران الذات، والتضحية بشيء من المال والوقت والجهد والخبرة في سبيل ذلك.. وهذا يتطلب من المهتمين في الشأن العام، والشأن الاجتماعي، النظر بشفافية الى معوقات العمل التطوعي، بمعناه الشامل، في بلادنا، ولماذا يحجم البعض عن الانخراط فيه؟ ولماذا ينفرد به، أحياناً، مجموعات معين من المجتمع؟ أو يقتصر على نشاطات محدودة؟ وهذا يتطلب تفعيل مسارات العمل التطوعي بكافة صوره وأشكاله عبر قدوة مستنيرة، وإصرار متواصل، وطولة بال ونفس، وتشجيع مستمر من الدولة، على الأقل في البدايات، عبر تأسيس ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني (الحكومية غير الحكومية) GNGOs.
مجتمعنا - ولله الحمد - لديه المال والرغب.. وشبابنا وفتياتنا لديهم الحماس.. ما نحتاج إليه هو التنظيم، والقدوة، والتركيز، وترتيب الأولويات.. نحن في مجتمع نخاف أحياناً من المبادرات التطوعية، ولدينا وساوس معينة قد لا تكون مبررة.. الشباب من الجنسين لديهم الحماس والطاقة، ولا بد من توجيه هذه الطاقات الى هدف للصالح العام، ولخير الفرد والمجتمع، وألا تحولت هذه الطاقة لغير هدف خيري.. فنحن - إذا كنّا - لا نريد لشبابنا أن يذهب الى الخارج للتطوع، ولا نريده أن يذهب للخفاء والظلام للعمل تحت الأرض، ولا لفتياتنا الخواء النفسي، والسلبية وعدم الاكتراث، (والتسدّح) في المنازل والاستراحات، والتسكع في المجمعات التجارية، والتهافت على الأمور الاستهلاكية، والتسمر على الفضائيات، وغرف المحادثات في الإنترنت، فلا مندوحة أن تُيسّر للشباب من الجنسين قنوات رحبة للحركة والتنفس، تحت سمع وبصر وملحظ الوالدين والأسرة والدولة والمجتمع، ويكون لحياتهم طعم، ولوقتهم قيمة، ولوجودهم رسالة.
إن الشاب السعودي والفتاة السعودية من واقع ما نسمع، وما نشاهد، لديهم رغبة جامحة في العمل والتطوع والمشاركة، ولكنهم يريدون القدوة والتوجيه، وفتح المجال، وتحسس الطريق، واعطاءهم الثقة في النفس.. هناك نجاحات في كل مكان في العالم: في الأردن، المغرب، مصر، بنجلاديش، أمريكا، أوروبا، أستراليا.. أمريكا الجنوبية.. يسندها عشرات التجارب، ومئات المحاولات، وآلاف التقارير كلها تشير الى نجاحات متحققة.. ولسنا في المجتمع السعودي أقل من الآخرين مالاً وانسانية وأريحية ورغبة.
لعل بالامكان تبني تجارب تطوعية في سياق برامج محدودة النطاق، ولكن ملموسة الأثر، في أحد القطاعات ذات الصلة بالشباب والفتيات كالتعليم والشؤون الاجتماعية ورعاية الشباب.. ومن ثم تقوم التجربة لينظر في تعميقها وتعميمها في حال نجاحها.. فلو قدّر لنا أن نقدّم تجربة ناجحة، ولو صغيرة ومتواضعة، على مستوى بعض المناطق، أو المدن، أو المحافظات، أو ضمن سياق نشاطات الجمعيات والمؤسسات الخيرية، أو الكشافة والمراكز الصيفية والنشاطات اللاصفية التابعة لوزارة التربية والتعليم، أو لجان التنمية الاجتماعية المحلية التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، أو البرامج التي تتولى الرئاسة العامة لرعاية الشباب الإشراف عليها.. فإن (عدوى التطوع)، سوف تنتقل الى محافظات ومناطق أخرى في المملكة، ونعيد للمجتمع السعودي حيويته المعهودة في هذه المجالات التي كانت سائدة في التسعينات الهجرية.
لقد نجح شبابنا أيمّا نجاح في العمل التطوعي الخارجي في جميع أصقاع الدنيا.. أليس جحا أولى بلحم ثوره؟!.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved