Monday 8th November,200411729العددالأثنين 25 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الرأي"

في أضعف المخلوقات لنا عبرة في أضعف المخلوقات لنا عبرة
نادر بن سالم الكلباني /الرياض

لا أزال ورغم مرور عقود من الزمن أتذكر قصة النملة التي رويت لنا ونحن على مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية.. فقد جاهدت هذه المخلوقة الصغيرة تسع مرات لتحقيق غايتها بالوصول إلى أعلى شجرة قبل أن تنجح في المرة العاشرة.
هذه القصة البسيطة تحوي بين طياتها العديد من العبر والدروس وتفرض علينا التأمل والقفز بتصوراتنا إلى استنباط مفاهيم عدة تجسدها هذه الصغيرة في شدة البأس وقوة العزيمة والإصرار على تحقيق الغايات أو الأهداف رغم العراقيل وصعوبة الظروف وواقع الإمكانيات الشحيحة أو القليلة لعلنا نستفيد منها في أمورنا الحياتية.. ولكني لم أنفك أتساءل.. لماذا سعت هذه المخلوقة الفريدة أصلاً للصعود إلى أعلى الشجرة بينما رزقها والمكان المناسب والطبيعي لها هو على الأرض إن لم يكن داخلها؟.. وإذا افترضنا أنها سعت لرزق لها فوق الشجرة فلماذا تكبدت كل هذا العناء للوصول لما كتب لها عوضاً عن التخلي عنه والبحث في أماكن متفرقة من الأرض على رزق أيسر وأسهل وأقل بذلاً للجهد؟.. ولا أجد الجواب فالملك الذي أعطي للنبي سليمان عليه السلام في معرفة منطق الطير وبقية المخلوقات لم يؤت ولا ينبغي لغيره، ولكني أفترض أيضاً أنها سأمت رؤية العالم الذي تعيش فيه من الأسفل ورغبت في معرفة كيف يبدو هذا العالم إن هي تمكنت من رؤيته من الأعلى، وأتخيل أن مجرد الرغبة في المعرفة ومعايشة التجربة هما اللذان قادا النملة لتكبد كل هذا العناء، ولتؤكد لنا أن حجم الإصرار والمثابرة وقوة العزيمة لا ترتبط ابداً بحجم الجسم وقوة البنية.. وأنه لا معنى للحياة بلا أهداف ولا معنى للأهداف إن لم نسع جاهدين لتحقيقها.. في موقف آخر قالت النملة لرفيقاتها عندما أحست بخطورة الموقف وهي ترى النبي سليمان عليه السلام مقبلا وجنوده.. {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }.. هذه المخلوقة المتناهية في الصغر والتي تكاد لا تبين عندما قالت لرفيقاتها ما قالت إنما هي أيضاً تجسد لنا العديد من المفاهيم والقيم التي غابت عن كثيرين ممن وهبوا بسطة في الجسم وشغلوا حيزاً في هذا الوجود فاق ما شغلته النملة بملايين المرات.. فها هي تظهر لنا كيف يكون الحكم على الأمور بعقلانية وصفاء سريرة يفتقدها الكثيرون، فبرغم حراجة الموقف لم تحاول ولو عن طريق الإيحاء أو الإشارة الافتراء على سليمان وجنوده ولكنها قدمت العذر المسبق المنطقي المبني على معطيات الأمور وافتراض حسن النية، ومن جانب آخر أوضحت كيف يقرأ الواقع وكيف يكون التحرك المنظم والسريع وفقاً للأحداث الجارية والتنبؤ المنطقي لنتائج الأمور.. وكيف تحدد اتجاهات المسؤولية وحجمها وكيف توضع الأهداف الآنية وكيفيات تحقيقها باستخدامها للفظ.. ادخلوا مساكنكم عوضاً عن مفردات أخرى كثيرة قد يلجأ لها الكثيرون في مثل هذه المواقف.
مخلوقة صغيرة من أضعف مخلوقات الله بنية وتكويناً، ولكنها أوضحت لنا قدراً عالياً من الاتزان والإصرار وقوة البأس والعزيمة وحسن التصرف وأهمية وجود أهداف في حياتنا نسعى لتحقيقها، فما أسوأ أن يعيش المرء بلا أهداف أو غايات تتحدى إمكانياته.. وما أغبى من لا تتغير أهدافه أو غاياته بتغير الظروف والإمكانيات.. فتتساوى عنده المسارات عندما لا يتمكن من تحقيق غاياته فيبقى ساكناًَ لا يتحرك.. ومن لا يتحرك لا بد وأن يدفعه تيار الحياة إلى الوراء.. وما أتعس إنسان علق سبب فشله على الآخرين وعلى الظروف المحيطة فقط، وتناسى حجم مشاركته ومقدار تفريطه، فعطل بهذا ما قد يجعله يبادر إلى الاستفادة من فشله على أساس أن الفشل هو المعلم الأول والحقيقي لمن كان له قلب ورغب في الاستفادة، لينطلق من جديد في محاولات أخرى كما يفعل النمل.. من يريد أن يتعلم كيف يكون الانضباط وأسس العمل الجماعي المكمل لبعضه وقوة الروح والعزيمة، كل ما عليه أن يتابع نملة في مسيرتها الحياتية اليومية ليعرف كم هو محتاج لبعض ما تختزنه هذه المخلوقة الفريدة والجبارة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved